
ولعل كتاب “حَمَلات الحج الكويتية على الإبل” المنشور عام 1426هـ ؛ يُمِيطُ اللّثامَ عن تلك العلاقةِ الحضاريّة خاصةَ ومؤلفوه الثلاثة : عدنان الرومي ، وصالح المسباح ، وخالد الشطي ؛ قد استفرغوا وُسْعَهم في جمْع وإعداد مادةٍ تاريخية قيّمة وعزيزة استطاعوا نبْشَها من صدور الرّجال ممّا حفظهُ ووعاهُ الآباءُ والأجداد ( عبر مقابلات لعدد 43 شخصية ممن أدركوا تلك الفترة أو عاشوا جزءاً منها من حُجّاجٍ وأصحابِ حَمَلات حَجٍ ) ، ومن بُطون كتب التاريخِ والرّحلاتِ الخاصة ، استغرقتْ من البحثِ والتنقيب خمْسة أعوام .
يؤرّخ هذا الكتاب لرحلات الحج الكويتية على الإبل إلى بيت الله الحرام لأداء فريضة الحج ، رسم فيه مؤلفوه صورةً واضحةً للقارئ عن حملات الحج الكويتية قبل مئة عام ، مع إعطاء صورة لطرق الحج ودُرُوبه من الكويت إلى الديار المقدّسة براً وبحراً ، وذِكْر المنازل التي يمرّون بها في الطريق وتوثيق ذلك بالخرائط ، إضافةً إلى وصْفٍ مُوجز للحرمين الشريفين قبل التوسعة السعودية الأولى ، ووصفِ المشاعر في مكة المكرمة والطريق منها إلى عرفات ، ووصفِ المدينة المنورة وما بها من أماكنَ كانتْ تُزارُ قديماً ، وتوثيق ذلك بالصّور القديمة .
ومن أجمل ما احتواه الكتاب ؛ وصفُ رحلةِ حجّ أحد أمراء الكويت عام 1336هـ الشيخ أحمد الجابر الصباح وما لقيَهُ من حَفاوَةِ وتكريمِ أميرِ مكةَ الشريف الحسين بن علي ، وهي الرحلة التاريخية التي خلّدَها شِعْراً المؤرّخُ عبدُ العزيز الرّشيد في تاريخه الشهير “تاريخ الكويت” مادحاً الشيخ أحمد الصباح بأبيات منها :
فأدّى الفرْضَ محموداً كريماً *** زكيّ القلبِ مغسولَ الضميرِ[/CENTER]
هذا ولم يُغفل المؤلفون الحديثَ عن العقباتِ والشّدائدَ التي واجهَها الحجاجُ في الطريق أو في الديارِ المقدّسة ، مع إفرادِ تراجمَ مهمّة لأصحابِ الحَمَلات ، وأخذ مقابلات شخصية مع عددٍ منهم ، وفي منْحى آخر ظريف قامُوا كذلك بتسجيل بعضِ الطرائف والحكايات المرتبطة بالحج التي مرّتْ بأصحاب تلك الحملات .
وفي الكتاب إشارات رائعة تستوقفُ المُهتمّين بالحياةِ العلميّةِ والثقافيّة بمكة المكرمة خلال تلك الفترة ، ولعل أهمّها حرْصُ بعض الحجاج الكويتيين على تلقي العلوم الشرعيّة بحلقات العلم في الحرم المكي الشريف ، وفي معاهد العلم الأخرى بمكة المكرمة ، إلى جانب الالتقاء بالعلماء والأخذ عنهم ؛ فقد ذكر مؤلفو الكتاب الكثير من النماذج لعلماء كويتيين استثمروا رحْلتَهم للحج في الأخْذِ عن علماء الحرميْن مثل : الشيخ عثمان بن سند (1766-1826م) ، والشيخ عبد الوهاب بن عبد الله الفارس (1902-1975م) ، والشيخ محمد بن سليمان الجراح (1902-1998م) وقد ذكر الأخير من العلماء الذين التقاهم بمكةَ المشايخ : محمد بن مانع مدير المعارف السعودية ، ومحمد عبد الرزاق حمزة إمام الحرم ، وعمر بن حسن آل الشيخ ، ومحمد حامد الفقي رئيس جماعة أنصار السنة ، وعبد الرحمن السعدي المفسّر المعروف .
هذا بالإضافة إلى أنّ الحياة العلمية بمكة كانتْ بيئةً جاذبةً للكثير من طلاب العلم الكويتيين ومنهم : الشيخ يوسف بن عيسى القناعي (1874-1973م) ؛ ففي رحلته إلى الحج عام 1905م التقى في مكة المكرمة بمجموعة من العلماء الأجلاء الذين كان لهم الفضل في بناء شخصيته العلمية ، فمكث يطلب العلم بمكة سنتين تقريباً ، ومثله أيضاً الشيخ عبد الرحمن جاسم الحجي الذي جاور بمكة سنتين يدرس الفلك ، ولعلّ أشهرهم على الإطلاق المؤرخ الكويتي الشيخ عبد العزيز الرشيد (1878-1938م) والذي كانت رحلته إلى الحج عام 1330هـ ، مكث بعدها فترة بمكة المكرمة واتصل خلالها بحلقات العلم التي كانت تعقد في الحرم المكي والمدارس التي كانت حوله ، ومن أشهرها المدرسة الصولتية ، وهناك اتصل بإدارة المدرسة حين زار مكة قادماً من مصر ، وأعجبه منها جهادُ ونشاطُ القائمين عليها حتى أنّه دُعي لإلقاء كلمةٍ مازالتْ محفوظةً إلى اليوم في تقريرٍ سنويٍ عن أعمال المدرسة الصولتية في الحفلِ الذي أقيمَ في مطلع ذي الحجة عام 1330هـ .
وفي إشارة أخرى أكثرُ من رائعةٍ تناولتْ الأعمالَ الخيريّة من قبلِ الحجّاج الكويتيين والتي كانوا يخُصّونَ بها الحرمين الشريفين ويُوقفونَها على الفقراء وطلبة العلم بهما ؛ يروي المؤلفون عن الشيخ أحمد الغنّام الرشيد أنّ عدداً من مُحْسني ومُحْسِنات الكويت اعتادُوا التبرّع بصَدَقاتِهم وزَكوَاتِهم على طلبةِ العلم بمكة المكرمة والمدينة المنورة ، ولعلّ أشهرَهم السيدة منيرة بنت عبد الله بن علي العلندا (1897-1967م) والتي أوقفتْ بيتاً بقرْب الحرَم على طلبةِ العلمِ والحجّاجِ في مكة المكرمة كان يسعُ 80 طالباً .
ومنهنّ أيضاً السيدة منيرة بنت عبد الرحمن بن صالح العتيقي التي اشترتْ أرضاً في “شعب عامر” بمكة عام 1227هـ وأوقفتْها من بعْدِ وفاتِها يُستفاد من غلّتها على مبرّات وخيْراتٍ تُصرفُ في وُجُوهِ الخيْرِ بمكةَ المكرّمة ؛ وشهادةً للتاريخ نستحْضِرُ هنا جزءاً مما جاء في حُجيّة وقفِها الشرعيّة – المُحرّرة من محكمةِ مكة المكرمة في تاريخ 24 من ذي الحجة 1277هـ موسُومَةً بخَتْمِ قاضِي مكةَ الشيخ رضا أفندي زاده – يقول النص :”يُتصدّق عنها (الواقفة) وعن أمها وأبيها وزوجها المذكورين في يوم عاشوراء من محرم الحرام من كل عام على الفقراء والمساكين بجزء من غلة هذا الوقف ؛ بأن يشتري (ناظر الوقف) به طعاماً ويطعمه للفقراء بما يراه مناسباً ، وكذا يعملُ في كل يوم عيدِ ذكرى مولد النبي صلى الله عليه وسلم ، وفي ليلة النصف من شعبان ، وفي ليلة الإسراء والمعراج .. وأما في شهر رمضان فيجمع الناظرُ جماعةً من حملة القرآن في كل يوم جمعة يقرؤون ختمةً كاملةً ويُهدُون ثوابها إلى روح الواقفة ووالديها زوجها المذكورين ، يجري ذلك دائماً وأبداً من غلّة الوقف المذكور بنظر الناظر عليه في كل وقفٍ بحسبه” .
والجميلُ في الكتاب أنّه نشرَ صُوراً لتلك الصّكوك الوقفيّة وما احتوتْهُ من تفْصيلاتٍ ترْسُمُ بُعْداً تاريخياً لأحْوالِ الأوْقافِ العلميّةِ في ذلك الزمن ، إلى جانب ما يحويه الكتاب في طبعتهِ الملوّنة الفاخِرَة من صُور فوتوغرافية ولوحاتٍ توضيحيّة تحمِلُ صبْغةً ثقافيّة جميلة عن العادات والتقاليدِ الكويتيّةِ المُتصلةِ بالحَج ، أضِفْ إليها ما اكتنزَهُ الكتابُ منْ أشعارٍ كثيرة فصيحةٍ ونبطيّةٍ في وصْفِ رحلةِ الحَج وفي مَدْحِ المُصْطفى عليه وعلى آله أزكى الصلاةِ والسلام .
يظلُّ للرّحلةِ إلى الحَج دورُها الخالدُ في مَسيرةِ التّواصُلِ الثقافيِّ والحَضاريّ بيْنَ شُعُوبِ العَالَمِ وأهْلِ البلدِ الحَرامِ حَامِلةً تلكَ الرّسالةَ المَعْرفيّة في اكتشافِ الآخرِ عبْر مَسَاراتٍ منْ حِوارِ الحَضَاراتِ قلّما تجتمِعُ في مَكانٍ وزَمَانٍ واحدٍ كما هيّأهَا الحَقُّ سبْحانهُ وتعالى ثِمَاراً جَنيّةً لقِبْلةِ المُسلمينَ مكةَ المكرّمة .[/JUSTIFY] [email]Shuaib2002@gmail.com[/email]
————————————–
مقالات سابقة
[url]https://www.makkahnews.sa/articles.php?action=listarticles&id=46[/url]