
كل التحوّلات الكبيرة تبدأ بفكرة جريئة ترسُمُ طريقَها وسط الشوك وتنزفُ عقباتِها نجاحاتٍ على مَذاقِ الشِدّة والرخاء ؛ لتكون مراجعةُ النفسِ وتغييرِها نحو الأفضل لها وللآخر بدايةَ كل البِدايات التي تمرُّ وتتجدّدُ كل عام .
ويبدو أن مفكّرنا وأديبنا المكي أحمد عبد الغفور عطار في كتابه “الهجرة” خضعتْ روحُه للكثير من المراجعات في حال الأمّة العربية والإسلامية ؛ ليجمعَ شتات ما كتبه من مقالات وبحوث ونصوصٍ حول حدث الهجرة النبوية العظيمة ، وتكونَ في موضعٍ واحدٍ وقد جمعتها وحدةٌ موضوعية فكان هذا الكتاب الذي أصدره في التاريخ الموافق لانطلاق الهجرة النبوية غرّة ربيع الأول في طبعته الأولى عام 1399هـ .
بدأ العطار مقدمته في تصحيح مبدأ الهجرة النبوية في غرة ربيع الأول في العام الأول لها ، وبيان أهمية استفادة المسلمين من دروسها ، وما يمكن أن تُحدثه من تغيير في أحوال المسلمين لو تمسكوا بدينهم الحق بعيداً عن القشور .
وقد اشتمل الكتاب على عدة مباحث مهمة هي في أصلها مقالات طويلة أو بحوث للمؤلف بدأها بمقاله المعنون “الهجرة .. أسبابها وبعض تاريخها” سرَدَ فيه أحداث الهجرة النبوية كما في كتب التاريخ والسِّيَر انطلاقاً من صاحب الهجرة عليه وعلى آله الصلاة والسلام والمواقف والمعالم والشخوص التي رافقتْ تلك المرحلة المهمّة من تاريخ الإسلام .
وفي المبحث التالي بعنوان “الهجرة أساس التقدّم الإنساني” أبدَعَ المؤلفُ في البحث والاستقراء واستنباط ما في الهجرة من معانٍ وعِبَر ، وما أعقبَتْ من أعمال كانت أساس التقدّم الإنساني كله ، وقد عَدّ المؤلفُ الهجرة من المعجزات التي غيّرتْ وجه الإنسانية على الأرض ، بل عدّها أيضاً انقلاباً حركياً قوياً في فهم الدين ! والعطار في هذا المبحث يُسقطُ دروس الهجرة على أحوال وأحداث العالم الإسلامي في زمنه ويستلهمُ ما في الهجرة من حلول لكثير من مشكلات المسلمين !
وفي مبحثه “الهجرة أعظم نقلة حضارية وإنسانية في تاريخ البشرية” – وهو بحث قدّمه العطار في مؤتمر السيرة النبوية المنعقد في باكستان عام 1396هـ باسم رابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة – عرَض المؤلفُ هنا لهجرة الأنبياء قبل المصطفى عليه وعليهم الصلاة والسلام ، مع بيان الجانب الإعجازي في هجرة نبينا العظيم ، واستنباط الكثير من الدروس والعبر في تاريخ الهجرة النبوية ، وفي هذا المبحث بعض التكرار لما ذكره في المبحث السابق .
أما مبحثه المعنون “التقويم الهجري” فهو عبارة عن بحث قدّمه العطار باسم نادي مكة الثقافي أيضاً في مؤتمر السيرة النبوية العالمي المنعقد في باكستان عام 1396هـ ، وهو مبحث مهم جداً في استقراء التاريخ الهجري الذي ترتبط به الكثير من عبادات المسلمين ، وما في استخدام التأريخ بالهجرة من فوائد وحكم ، وفيه تعرّض المؤلف لطرائق تحديد الأوقات بالقمر وسمّى منازله الثمانية والعشرين ، وبيّن بعض أمور الفلك واستعرض بعض التقاويم السابقة للتقويم الهجري كالتقويم السرياني ، واليوليوسي ، والجريجوري ( الميلادي ) وأفاض واسترسل في ذلك .
وقد بين المؤلفُ لماذا لم يتخذ المسلمون مبدأ التاريخ الإسلامي بيوم الهجرة 1 ربيع الأول ، واتخاذهم غرّة المحرم بداية السنة ؛ لأنّه أول السنة عند العرب ، وقد رضيَهُ المسلمون واتفقوا عليه ، وسلِمَ طيلَةَ قرون الإسلام الطويلة من التبديل والتغيير ثابتاً على تقسيمه وشهوره القمرية بعكس بقية التقاويم بالعالم !
وكان ختامُ الكتاب في موضوع “المدينة المنورة مهاجر الرسول صلى الله عليه وسلم” ، وفيه بيّن المؤلفُ تاريخها بالجاهلية والإسلام ، وفضلها الذي شهدتْ به الأحاديث والآثار .
ولعلّ أجمل ما في الكتاب أدبياً أن المؤلفَ ضمّ فيه – إلى جانب مقالاته ومباحثه – نصاً مسرحياً له بعنوان “الهجرة” يتكوّن من فصل واحد ، وتسعة مناظر تحكي عبر شخصياتها أحداث الهجرة النبوية كما وردتْ في السيرة ، وقد نُشرتْ هذه المسرحية سابقاً في مجلة “الشباب الناهض” الخطيّة التي كان يُصدرها العطّار وهو طالبٌ بالمعهد العلمي السعودي بمكة المكرمة ، نُشرتْ في العدد الثالث منها بشهر ربيع الأول عام 1352هـ ، ثم نُشرتْ بعد ذلك بمجلة “الحج” في عددها الصادر بشهر محرم عام 1368هـ .
وفي الختام من المحزن أنّ هذا الكتاب مطبوع طبعة وحيدة في بيروت عام 1400هـ وهي نافدة ولا يوجد طبعة أخرى لها رغم أهمية الكتاب وثرائه المعرفي في موضوعه ! وللحقيقة كلما تناولتُ كتاباً للمفكر والأديب المكي أحمد عبد الغفور عطار ؛ شعرتُ بالأسى وبالتقصير يتجدّدُ تجاه علَمٍ مكيٍّ فذٍّ وهامةٍ فكريّةٍ سعوديّةٍ لم ينَلْ نتاجُها ما يستحقُّهُ من تجديد الطباعة وإعادة النشر ؛ ناهيكَ عن الدراسة والتحقيق ؛ حيث تعيشُ معظم مؤلفات هذا الأديب غُرْبةً في المكتباتِ الخاصة والعامة لدى قرّائها القلّة الذين ورثوها عن الآباء والأجدادِ كقِطعةٍ أثرية ماتَ صانِعُها وبَقِيَتْ تنتظرُ الزمنَ ؛ لعلها تغلُو كلَما كهَل !!
إنّ اتصال نتاج السلف بأجيال الخلف لابدّ أن يستمرّ ويكون مصدرَ استمدادٍ وعطاء ، وألا ينقطعَ بموتِ أعلامِهِ والاكتفاء بتخليدِهم بحَفَلاتٍ قُشُوريّة تنتهي في وقتها ويبقى نتاجُهم مَهْجُوراً ينتظرُ من يُشفِق عليه ! فإنّ أوفى ما يُقدّم للأديب بعد وفاته إعادة نشر نتاجه وتقديمه للشباب في حُلّةٍ قشيبةٍ تفتحُ بابَ الصِّلَة وتكونُ مَعْبراً حضارياً يقي حدُوثَ الفَجْوةِ والصِّراعِ بين الأجيال !
* مِن آخِرِ السّطْر :
قبل أكثر من 36 عاماً وجّه العطار رسالة مهمّة للحكّام في آخر مقدّمته لكتابه “الهجرة” يقول فيها :”نرجو أن ينتفعَ قادةُ المسلمينَ من الهجرةِ حتى ينتفعَ بثمارِها وكنوزِها وذخائرها المسلمونَ جميعاً ؛ فصلاحُ أعضاء الجسدِ بصلاحِ القلبِ كما جاء في حديث صاحبِ الهجرة عليه وعلى آله وصحبه الصلاة والسلام” .
“كل التحولات الكبيرة تبدأ بفكرة جريئة ” عبارة فخمه تزين بها مكتبي هذا الصباح