
(مكة) – متابعة
قدّمت الناقدة الدكتورة لمياء باعشن خلال الحلقة النقدية التي نظمها نادي جدة الأدبي امس ورقة نقدية بعنوان (دور اللغة العربية في تكوين الهوية الثقافية) قالت فيها يدور سؤال الهوية الثقافية في مدارات التأثير والتأثر، فمادامت هذه الهوية لا تولد مكتملة مع ولادة الانسان بل تتشكل تدريجياً في مراحل عمره المختلفة، فذاك يجعله قطعياً عرضة للتأثر بعوامل متعددة تدخل في مواضع مختلفة من إجراءات هذا التشكل المرحلي. تتشابك هذه العوامل في عملية شد وجذب مع انتماءات الفرد حسب قوتها وقدرتها على الاحتواء والإقناع، أي على التأثير عليه وتغيير مواقفه واتجاهاته الفكرية ليخرج من أطر ويدخل في غيرها بفعل التأثر.
وابانت باعشن إن عزل اللغة عن بقية عناصر التكوين الثقافي يعطيها أهمية وأولوية قد تكون موضع مسآلة، فالحضارات تقوم على عناصر مشتركة مثل التاريخ والتراث، والدين والمقدسات، والأخلاق والمبادئ، والمعارف والفنون، واللغة والذاكرة الجمعية، وهي عناصر تشكل في مجملها جوهر العرقية المنغرسة في عمق التكوين الثقافي لأي أمة. اللغة، بلا شك، مكون مهم من مكونات الانتماء الثقافي، لكنها ليست الأهم ولا يجب أن تكون لها صدارة رمزية ولا سيادة في مسألة استنهاض الأمة وإنعاش وجودها الحضاري، أو في مهمة تحريك الفكر والحفاظ على الأمة. هنالك فرق بين أن تكون اللغة بنية معرفية في حد ذاتها، وبين أن تكون نظام تعارفي تراكمي أنتجته ضرورة التواصل بين أهل البيئة الواحدة، لذلك هي تمثل رابطا قوميا يعزز الشعور بالانتماء ويوثق قبول عضوية الفرد في دوائر مجتمعه.
وقالت باعشن وقبل أن نشرع في مناقشة دور اللغة في تكوين الهوية الثقافية لابد أن ندرك أولاً أن اللغة كمعطى بالمطلق يظل معطلاً وبلا فاعلية حتى يتم تحديد المهمة الموكلة إليه. السؤال الحقيقي الذي نحن بصدده هو: هل استخدام اللغة كمشترك بين ناطقيها يؤدي بالضرورة إلى توحيد هويتهم الثقافية؟ في اعتقادي أن اللغة المشتركة ليست بالضرورة أهم عامل توحيدي للجماعة الناطقة بها، ولنضرب بعض الأمثلة لتتضح الصورة: يظن البعض أن اللغة الإنجليزية هي الخطر الداهم الذي سينقض على لغتنا العربية ويسبب انقراضها لتحل محلها فتتلاشى هويتنا العربية الخاصة بنا، وهذه المخاوف ربما لها مبرراتها فهي تتردد في الدانمارك كما تتردد في تايوان حول ما يسمونه “الحمى الإنجليزية” المصاحبة لحركة العولمة، لكن الواقع يشهد بأن الاشتراك مع الاخر في لغة واحدة لا يخلق توحد ثقافي بالضرورة، كما أنه لا يهدد الهوية الخاصة، فالإنجليزية نفسها هي اللغة الرسمية لبريطانيا وأمريكا وكندا وأسترالياضمن قائمة تضم 58 دولة ظلت جميعها محافظة على هويتها الخاصة وكذلك على لغاتها المحلية بلهجاتها ولكناتها أيضاً، والأكثر من ذلك أن الاستخدام المحلي للإنجليزية قد أضفى عليها سمات خاصة حولتها إلى إنجليزيات متمايزة أضافت إلى الهوية المحلية ولم تنتقص منها.
وقالت باعشن كما وقد صمدت اللغة العربية في معارك أخرى أهمها حركة التتريك القسري الذي رفضه العرب وقابلوه بردة فعل عنيفة في الاتجاه المعاكس، فتمت بلورة مفهوم القومية العربية في حركة ثقافية معارضة كان هدفها التعريب. ثم ظهرت المقاومة لمحاولات الاستعمار والاستشراق والتنصير في تذويب الهوية العربية وإضعاف اللغة العربية دون جدوى. اللغة العربية إذاً صامدة ومحصنة ما دام العرب على درجة من الوعي تمكنهم من الحفاظ عليها وعلى هويتهم وتراثهم من الاندثار.
وبينت بإن اللغة العربية ليست في أسوأ أوضاعها، فلسان أبناء العرب لم يـُـقطع، بل إن تعلم القراءة والكتابة لم يكن شائعاً بهذا الشكل ولا بهذه الدرجة في تاريخ العرب. ربما لا يجيد معظم الناطقين بالعربية نحوها وقواعدها حد الكمال، خاصة على المستوى الكلامي العادي، لكن ذلك لا يعني أن يتحمل هذا الوضع اللغوي أية ملامة على تشويه الهوية أو على تسهيل مهمة اختراق العولمة للنسيج الثقافي للأمة العربية. يعود النقص اللغوي إلى ضعف التعليم على وجه العموم، فما تعانيه اللغة العربية كمادة علمية تعانيه باقي المعارف بنفس الدرجة، وكل هذا العجز عائد إلى سوء ظروف التنمية العربية الشاملة. أما وقد أزلنا هذا المشجب فسنقول إن إصلاح اللغة أمر مطلوب ومستحسن، لكن لو كان الهدف من وراءه هو تحصين النسيج الثقافي للأمة ضد الاختراق العولمي، فذلك جهد ضائع. العولمة ليست خطراً سيداهمنا فنستعد له، لقد داهمنا وكان ما كان، ولو أننا أضعنا مزيدا من الوقت لتعلم اللغة العربية وإجادتها حتى نتحدثها بطلاقة أهلها الأوائل وإتقانهم دون خطأ واحد، فالعولمة لن تزول وخطرها لن ينتهي.
وقالت باعشن إن تنشيط عناصر التكوين الثقافي يجب أن يجري في خطوط مؤطرة وفي ضوء منظور سوسيوثقافي عقلاني يسعى إلى تحفيز الشعور بالانتماء لدى أبناء الوطن العربي وإلى بث روح الترابط والتماسك بينهم. من أهم مقومات هذا المنظور تنمية الإحساس في قلوب العرب بأصالتهم وبخصوصية أسلوب حياتهم المشتركة. ولضمان عدم الذوبان الأممي لا بد من الحفاظ على التراث الشعبي العربي، القديم منه والحديث دون استثناء، فالجذور القومية لا تقوى إلا حين ترتبط بمضمون ثقافي مستمد من الذاكرة الجمعية بما تحويه من قيم وحكايات واحتفالات وعادات ولهجات تحصن جبهتها الداخلية. هذه القاعدة الشعبية للهوية الثقافية هي التي تكسب أفراد المجتمع شعوراً بالوحدة والانتماء. الهوية الوطنية تقوم أساساً على الادراك الأولي للولاءات البدئية التي يشكلها تعلقها بالمعتقدات والممارسات التقليدية، ولا يربكها إلا الفصام بين بنيتها الثقافية التحتية والبنية الرسمية التي تحتقرها وتقلل من شأنها. إن التعالي على كل ما هو شعبي ومحلي سواء كان لهجة أو خرافة أو زجلاً أو رقصاً أو خلافه هو الذي يفرغ الثقافة العربية من محتواها ويدفع بأفراد المجتمع إلى الخارج لتلقي الإنتاج الثقافي الأجنبي ودفن المنتج المحلي خجلاً من دونيته وتقزيمه. هذا التفريط في مكونات ثقافتنا الشعبية يحصر الهوية الثقافية في مجالات تقليدية ضيقة، ويخنق الابتكار ويوقف استمرارية التطور الطبيعي للثقافة العربية. قدترفد اللغة العربية العقل العربي بمكونات الثقافة الأجنبية من خلال الترجمة فتخترق هويته، وقد تفتح اللغة الأجنبية آفاقاً واسعة في عقل العربي ليزداد تعلقاً بثقافته وتقديراً ووعياً بمكوناتها فتشتد حصانة هويته.
وقد شهدت الجلسة الحوارية التي أدارها الدكتور محمد ربيع الغامدي مداخلات عدد كبير من النقاد الحاضرين من بينهم الناقد على الشدوي والدكتور يوسف العارف وعبدالعزيز قاسم وسعد الرفاعي وزيد الفضيل وجواهر الحربي، وحنان بياري، وعلياء العمري، وسناء الغامدي وزنيب غاصب