المقالات

نساء خالدات: “الله يرحم مزنة”

كما تحدثت في المقال السابق عن المرأة الحديدية غالية البقمية سوف أسدل الستار عن فارسة أخرى، فارسة من عنيزة اسمها مزنة المطرودي الخالدي، من أشهر نساء الجزيرة العربية، ولست وحدي من يقول هذا، أو إن شئت القول فقل إن لهذه الفكرة مستندًا تستند عليه؛ لقد ذكر رواة التاريخ في الجزيرة العربية في خزانة التواريخ النجدية هذه الرواية تواترًا:
“هاجم قطاع طريق مزرعتهم في غياب الرجال واستولوا على المواشي. فلبست ثياب أخيها وامتطت ظهر حصانه متخفية بالشماغ وحملت السلاح. طوقت اللصوص من بعيد. طلبت منهم العودة مع الحلال، قبل أن تطلق عليهم النار. تراجعوا وسجنتهم في غرفة حتى عاد والدها”. بطلتنا، هي مزنة بنت منصور المطرودي الخالدي وهي من أسرة طيبة من بني خالد وكانوا يقيمون في عنيزة في قرية (العوشزية) ليس فيها من الرجال الذين تنعقد بهم الجمعة فكان رجال القرية يذهبون إلى المذنب التي هي أقرب القرى إليهم فيصلون فيها الجمعة وذهابهم وإيابهم وصلاتهم تستغرق وقتًا طويلًا. وكانت المسافة بين قريتهم العوشيزية وعنيزة تبلغ 7 كيلومترات، ما يعني أنهم سيتأخرون في العودة، خاصة أنهم اعتادوا شرب القهوة بعد الصلاة عند أحد معارفهم، ولا يعودون إلى الديار إلا بعد صلاة المغرب. وفي أحد أيام الجمعة حين ذهبوا للصلاة وخلت القرية من الرجال جاء لصوص فاستاقوا إبل أهل القرية وشرعوا في قيادة الغنيمة، ولم يكن في القرية رجال ينقذون الموقف، وهناك أحست البطلة مزنة بالغيظ من ضياع حلال والدها وأهلها فهبت الفتاة الشجاعة ولبست ثيابًا لأخيها ووضعت العقال على رأسها وأحاطت وجهها بلثام باستدارة الشماغ وأسرجت الفرس وأخذت السيف وسلّته ولثمت وجهها، وركبت الفرس واتجهت نحو قطاع الطريق وأحضرت معها مجموعة من النساء وجعلتهن يتخفين مثلها، وركبن الخيول، وسِرْن كأنهن مجموعة من الفرسان الشجعان في إثر السارقين، وبدأن يدُرْن حولهم من بعيد وكأنهن ينوين الانقضاض عليهم، وهو ما أرعب السارقين فما راعهم إلا الفارس مغيرًا عليهم على حصانه وبيده السيف المسلول يلمع وظلت تدور وتستعرض مرتين أو ثلاثًا فأخذهم الرعب. ودخلوا على صاحب الفرس أن يكفّ عنهم غارته ويتخلّوا عن الإبل إلّا أنها أفهمتهم بلغة تقلد فيها الرجال أنها لا تعفيهم حتى يعودوا أسرى حتى يأتي صاحب القصر فسألوا «من نحن بوجهه»، فقالت لهم: أنتم بوجه حماد المطرودي، فاستسلموا وعادوا مع الغنيمة وقادتهم وأدخلتهم القصر وقفلته عليهم. فلمّا جاء أبوها وإخوانها وأهل القرية أبلغتهم الخبر، ثم قدموا لهم الضيافة وقالوا: لا نأكل حتى يأتي الفارس الذي ردّنا، فقال أبوها: إن الفارس الذي ردكم لا يواجه الرجال الأجانب منه، فعلموا أنها امرأة، فزادهم ذلك غمًّا على غم. وقالوا: إذا كان هذا فعل نسائكم فما هو فعل رجالكم؟”
إن هذه الرواية التاريخية شاهد مهم على ما أشرت إليه في بداية مقالتي هذه، وإنها لرواية تبعث على الإعجاب الشديد بشجاعة هذه المرأة وإقدامها وحسن تصرفها إزاء ذلك الحادث.

وبالعود لسرد هذه القصة، طلب الضيوف رؤية حماد المطرودي الفارس، وكانت مزنة قد أخبرت والدها بما حدث، فأخبر الجميع أن هذا الفارس الذي أجبر البدو على إعادة الماشية ما هو إلا ابنته مزنة المطرودي. وإن كان من إشارة ثانية يمكن التقاطها من هذه القصة فهي أن الرجال سواء كانوا آباءً أم أزواجًا أم إخوة لم يكونوا ينظرون للمرأة نظرة دونية فيخفون هويتها أو اسمها بل كانت نظرة احترام وثقة، وتقدير وفخر.

ولذلك رددت القبائل العربية مقولة «الله يرحم مزنة»، وقصدوا بها مزنة المطرودي. وقد شاعت هذه القصة في نجد، وبعد انتشار خبر مزنة بين العرب ووصوله حتى مجالس الأمراء، سارع الخطاب لطلب يدها، وخطبت لابن جلوي بن تركي آل سعود فتزوجها وأنجبت منه سعود بن جلوي أحد الشجعان المغاوير رحمهم الله رحمة واسعة.. ويروي الدكتور أحمد البسام، وهو أستاذ في قسم التاريخ في جامعة القصيم أن “التاريخ الحديث سطر إنجازات سيدات لهن أعمال خالدة في المملكة” وأضاف «أنجبت عنيزة كثيرات ممن يشار إليهن بالبنان وتعطر المجالس ذكراهن، وهن يحتجن اليوم بعد رحيلهن لتخليد ذكراهن، ومن البر بهن أن تطلق أسماء المميزات منهن على بعض الشوارع والتعريف بهن».

وقد قامت بلدية عنيزة مشكورة بإطلاق لوحة طريق مزنة بنت منصور المطرودي في 15 جمادى الآخرة 1443 هـ. وهذه المبادرة تعزز ما تحظى به المرأة السعودية منذ بداية تأسيس هذه الدولة المباركة من اهتمام وعناية، وتشجع النساء من الجيل الحالي أن يحذين حذو القدوات اللواتي سبقنهن؛ كما أقترح المزيد من إطلاق أسماء نساء سطرن تاريخ الجزيرة العربية بمداد من نور فإطلاقه على الشوارع الرئيسة في المدن الكبرى والمدارس ودور الرعاية، بل والمستشفيات- ليس فقط دور تحفيظ القرآن الكريم- تخليد مهم لذكراهن وصدقة جارية لهن.
إن إزاحة الستار عن هؤلاء النسوة بدراسة تاريخهن وإطلاق أسمائهن على بعض الشوارع مبادرة وطنية مهمة تخلد ذكرى الأعلام من النساء السعوديات ممن كان لهن إنجازات وبطولات وقصص وروايات تحكيها كتب التاريخ. لقد خلدت مزنة كما خلدت نساء هذه الأرض المباركة ليتركن أثرًا بارزًا وبصمات لا تزول إن شاء الله في الحكمة والشهامة والسياسة والدين والصلاح والكرم والعلم، ويمكن القول إن مشاركتهن لا تقل عن مشاركة أقرانهن من الرجال الأفذاذ الذين ولدوا من أرحام حرة أبية قوية لا تقبل الذل ولا الهوان.

ونختم القول بأنه على التعليم إزاحة الستار عن الأدوار المختلفة للمرأة البدوية العربية السعودية التي شاركت في التأسيس وفي توحيد وترسيخ وحدة الوطن واستتباب أمنه واستقراره، كما شاركن ولا زلن بأعمال الخير والإنفاق في خضم الأزمات، ما جعل منهن مضرب مثل حتى يومنا هذا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com