عام

ميلاد الحبيب المصطفى .. ميلاد للرحمة

إن المحبة نعمةٌ عظيمة امتنَّ الله بها على عباده؛ فهي “قوت القلوب، وغذاء الأرواح، وقرَّة العيون، وهي الحياة التي مَن حُرِمها فهو من جملة الأموات، والنورُ الذي مَن فقَده فهو في بحار الظُّلمات”.
فالمحبة كما قال أبو جعفر الطحاوي – رحمه الله -: “لا تُحَد بحد أوضح منها؛ فالحدود لا تزيدها إلا خفاءً، وهذه الأشياء الواضحة لا تحتاج إلى تحديد؛ كالماء والهواء والتراب، ونحو ذلك”.
أو كما قال ابن قيم الجوزية – رحمه الله -: “حَدُّها وجودُها، ولا توصف المحبةُ بوصفٍ أظهرَ من المحبة”.
والحب عند الرسول – صلى الله عليه وسلم- لم يكن إلا فطرةً جُبِل عليها منذ كان طفلاً وحتى كبر وبعث، كان قلبه فياضًا بالمشاعر النبيلة لكل من حوله، وهذا ما ألان عُودَ كلِّ جبار، وأبدل مشاعر الكره حبًّا عند الكثير ممن عاصروه وعايشوا جميل خصاله – صلى الله عليه وسلم-؛ “فكم من أعرابي فَدْمٍ لا أدب له ولا فهم ولا عقل ولا عِلم ولا كرَم ولا حِلم، قابل جنابه الشريف بما غضب له المكانُ والزمان، وخاطبه بما عبَس له السيف واحتدّ له اللسان، فكان جوابه الإغضاء، والعفو عمن أساء، فتبدل بغضُه بالحب.
وبذات الحب كان يتحمل أذى المشركين، وجفاءَ وغلظة بعض السفهاء، من أمثال أبي لهب، وأبي جهل، وعقبةَ بن أبي معيط، ولو كان قلبه يعرف الكُره والانتقام، لاستجاب لأمرِ جبريل – عليه السلام- حين قال له ذات مرة: “إن الله عز وجل قد سمع قولَ قومك لك وما ردُّوا عليك، وقد بعث إليك مَلَك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، قال: فناداني ملَك الجبال وسلَّم عليَّ، ثم قال: يا محمد، إن الله قد سمع قولَ قومك لك، وأنا ملَك الجبال، وقد بعثني ربك إليك لتأمرَني بأمرك، فما شئت؟ إن شئت أن أُطبِق عليهم الأخشبينِ”، لكن الرسول – صلى الله عليه وسلم- المحب العطوف قال: “بل أرجو أن يُخرجَ الله من أصلابهم مَن يعبد الله وحده لا يشرك به شيئًا” (أخرجه مسلم فى صحيحه)..
وأعظم مظاهر الحب تجلَّت في حب الرسول – صلى الله عليه وسلم- لربه -سبحانه وتعالى-، هذا الحب الذي سكن كل ذرة في كيانه، وكان يدفعه حتى قبل البعثة إلى الخَلوة بهذا الفاطر المبدع المنزَّه عن الشريك، حب تجلَّى في تفانيه – صلى الله عليه وسلم- في عباداته، فكان في كلامه وصمته، في حركته وسُكونه، في نومه ويقظته، بل في أنفاسه – صلى الله عليه وسلم- يعبُدُ الله -عز وجل-، لا يفتُرُ لسانُه عن ذكره واستغفاره، حب اتضحت ملامحُه في غضبه عند انتهاك حُرُمات محبوبه، وصبره وتحمُّله للأذى في سبيل أن تبقى كلمةُ الله هي العليا، أوَلم يقُلْها الحبيبُ – صلى الله عليه وسلم- في أوج محنته: “إن لم يكن بك غضبٌ عليَّ فلا أبالي”، فما تساوي الدنيا إن غضِب الله عليك وجرَّدك من رداء محبَّته لك؟!
وهذا حبه لأهل بيته..
أمِّنا خديجةَ – رضي الله عنها وأرضاها- لم يتزوج غيرها إلا بعد وفاتها، وكان كثير الذِّكر لها بعد ذلك؛ حيث قالت أمُّنا عائشة – رضي الله عنها-: “ما غِرْتُ على امرأة لرسول الله كما غِرْتُ على خديجة؛ لكثرة ذِكر رسول الله صلى الله عليه وآله إياها، وثنائه عليها”.
فقد ذاق معها طعم الحياة الزوجية مَرِيئًا وهو القائل: “رزقت حبها”؛ لهذا بقي – صلى الله عليه وسلم- وفيًّا لذكراها حتى بعد زواجه بغيرها، وما كان يفتُرُ عن الثَّناءِ عليها والاستغفار لها.
وهذا حبه صلى الله عليه وآله…لأُحد ..
فلقد امتد الحبُّ النبوي ليشمل الجمادات، فكان – صلى الله عليه وسلم- يحب مكةَ مسقطَ رأسه، ومحضنَ نشأته، وأوَّل مَن لبَّى من أهلها دعوته، وأحب الرسولُ – صلى الله عليه وسلم- كذلك جبلَ أُحُد، فقال فيه: “ُحُد جبلٌ يحبُّنا ونحبُّه” .. سيدى يا حبيب الله.
وأختم بقصيدة بعنوان “وَوحدَك أنــتَ مِـيلادُ الحَـيَـاةِ”، والتي تقول:
وكُـلُّ الـنَّــاسِ تُـولَد ثـمَّ تـفنـى
وَوحدَك أنــتَ مِـيلادُ الحَـيَـاةِ
وكُلُّ الـنَّاسِ تُـذكَـرُ ثُـمَّ تُنـسَـى
وذِكـرُكَ أنــتَ بـاقٍ فِي الصَّلاةِ
تــردِّدُهُ الـمــآذنُ كـــلَّ وقــــتٍ
وَينبـضُ بالقـلـوب إلى المَمَاتِ
…أَتَيتَ سنـاً وليلُ الـكونِ داجٍ
وبـعــدَ الـوأدِ أحيَـيْـتَ البَنَـاتِ
وفاح المسكُ أنَّى كنتَ تمـشي
ووجـهكَ نـورُه عَــمَّ الجــهــاتِ
وُقد تُعلِـي المَكارم قَـدْرَ قَــومٍ
ويعــلو َفـِيـكَ قــدرُ المَكـرُمَـاتِ

– عضو مجلس إدارة شركة مطوفي حجاج أفريقيا غير العربية

خالد محمود علوي

كاتب - عضو مجلس إدارة شركة مطوفي حجاج الدول الأفريقية غير العربية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى