الثقافية

أصالة التجربة في قصيدة (لوعةِ أسى)؛ للشاعر يحيى جبران معيدي

عرْضُ القصيدة:
في عتمةِِ من غاسقِِ ملتهبْ
جاشَ به تحنانه المشرئبْ

يُلقيه في أشراكِه سادراً
يُمسيهِ في دوّامة المغتربْ

في لوعةِِ منسوجةِِ من أسى
أودتْ به في مشرعِ مضطرِبْ

وجذوةُ التشتيتِ في رُكنه
لم تبتعدْ عنهُ ولم تقتربْ

نجواهُ طيفٌ حارقٌ بالجوى
يُشعل من إعصاره الملتهبْ

وزفرةٌ حرّى طوتْ روحه
أضحى بها المرهون والمكتربْ!

يغيبُ عنه الأنسُ مأمولُه
وتحضرُ الآهُ بها ينتحبْ

من ثكنةِ الحرمانِ آمالُهُ
خطّتْ على إحساسه المرتقِبْ!
______________________
التأملات:
يقول (ابن رشيق) في كتابه “العمدة”: في معرض الحديث عن الشاعر :
«إذا لم يكن عند الشاعر توليدُ معنى ولا اختراعه، أو استظراف لفظ وابتداعه، أو زيادةٌ فيما أجحف فيه غيره من المعاني، أو نقْصٌ مما أطاله سواه من الألفاظ، أو صرفُ معنى إلى وجه عن وجه آخر، كان اسم الشاعر عليه مجازاً لا حقيقة، ولم يكن له إلا فضل الوزن، وليس بفضل عندي مع التقصير»
ألحَّتْ عليَّ تلك المقولة النقدية الخالدة في ضمير الزمن ؛وأنا بصدد التأمل في (لوحة شاعرنا) المنضوية ؛تحت عنوان:(لوعة أسى )
كانت الغاية التي ارتأيتُها في بادئ الأمر ؛هو تقديمها إلى القرّاء؛لاأقلّ ولا أكثر ؛بمقدمة قصيرة يسيرة ؛تشير إليها إشارات خاطفة؛تنبئ عن مدى إعجابي بهندستها المعماريَّة المحكمة ؛ولفتاتها العميقة المؤثرة؛وفرادتها في عالم وجدانيات شعراء الوقت الحاضر.
ثم بدا لي أنْ أساير صوت شاعرنا ؛في رحلته الغسقية هذه؛وأن أشدّ على يديه في مواجهة الطوفان الناري الذي احتدمتْ أصداؤه في قصيدته المائجة.
فإذا (اللوعة)وحدها تشرئب إليَّ ؛كتحنان الشاعر ؛وإذا الأسى الموّار في كلماتها يدفعني إلى أن أمعن النظر؛كرَّةً بعد أخرى في طبيعة الموقف الحادّ؛وماتمخض عنه من مضامين شعرية برّاقة؛وهواتف وجدانية مستعرة.
لقد أُثر عن الشاعر الإنجليري”هاوسمان” قوله الذائع:
«لو أنَّ بيتاً من الشِّعر مر بخاطري؛لارتعش بدني؛وجمد شَعري»؛
وإني لأجدني في حضرة متحف شاعرنا الكبير هنا؛في حالة تشبه ذلك ؛إن لم أكن مثله تماماً.
فللوعة في صدري تاريخٌ قديمٌ متجدد؛ تجتاحني أعاصيرها ليل نهار؛على فراق الأشقَّاء ؛وخُلو يديَّ منهم.
وأبادر إلى القول إنَّ السطور التالية ماهي إلاَّ محاولة استجلاء رؤى شاعرنا وما اتشحتْ به قصيدته من خصائص وسمات فنيَّة بارزة للعيان.
ولأنَّ المدخل الرئيسي إلى القصيدة ينبثق من العنوان(لوعةُ أسى) ؛حيث هو العتبة ؛كان لابد لي من الوقفة هنيهةً للدندنة حوله؛واستشفاف ماوراءه من معانٍ ؛وذلك بإيجاز.
وللمتلقي أن يتساءل: ما لوعة أسى الشاعر؟!
أهي وقدةُ الشعور؟!أم غليان الضمير؟! أهي هاجسٌ عابر ؟أم جحيمٌ صاهر ؟!
ومن سوى الشاعر يستطيع تلمَّسها وترجمتها ؟!
اللَّوْعَةُ : كما في المعجم ؛هي حُرقةٌ في القلب، وأَلمٌ يجده الإنسان من حبٍّ أَو همٍّ أَو حزنٍ أو نحو ذلك؛وهي هنا جاءت مضافةٌ إلى لفظة(أسى)الذي يمثل هيمنة الحزن الجاثم؛وتغلغله في أعماق الذَّات وجنبات الروح.
ومن شأن ذلك التعبير الشفَّاف تعميق المعاني النفسية؛والإحالة على الخفايا الكامنة في الذات الإنسانية.
لاجدال إذن أنَّ هذا التركيب الملتهب (لوعة أسى) (عتبة النص) كما أسلفت ؛ينطوي على معاناة جسيمة؛ومكابدات غير يسيرة؛وشجون مضطرمة؛ألمَّت بالشاعر؛ وألقتْ ظلالها عليه ؛وفرضتْ عليه أن تجيء معزوفته على هذه المثابة من الشجن الممض العاصف.
ماتلبث تلك اللوعة الضارية أن تتجسد ملامحها في أبيات النص المنتظمة
فنراها وقد طوَّقتْ المشار إليه بالحديث في مطلع القصيدة؛ لتتولّد عنها انفعالاتٌ جيَّاشة متتابعة ممثلة في موجات الحنين المتصاعدة ؛في اصطناع المصايد له المعبّر عنها (بالأشراك)؛
ليجد نفسه فيما يشبه (دوامة المغترب) النَّائي عن أهله وأحبَّائه ومرابع صِباه.
لقد سار شاعرنا في قصيدته الفاتنة سيراً لا اعوجاج فيه؛وكانت لغة الوصف والتلميح طوع يديه؛ورهن إشارته ؛منذ إيمائه المبكِّر؛ لبطل قصيدته الغائب فيما يبدو لأعيننا؛فهو ابتداءً من المطلع يسلّط الضوء على الإطار الزمني؛ويتخذه نقطةِ ارتكاز يبني عليها نصَّه الوثير؛
ولاأدلّ على ذلك من لفظة:(عُتمة)؛متعاضدةً مع (يمسيه) و(أضحى)؛وقد جاء بها بصيغة (التنكير) من أجل اتساع المعنى الزماني في الغالب ؛ولكيلا تُربط بظلام الليل الدامس فقط؛انصياعاً لدلالتها المتعارف بها.
فمن العُتمة مايكون في الفكر المسطَّح المُراد تفنيده ؛ومن العتمة مايكون في المعاملات ذات المنطق النفعي؛ ومنها ما هو نهجٌ أخلاقي أواجتماعي ؛كما في الأقنعة الزائفة وما إليها.
ثم يتابع شاعرنا مهمة الوصف التي تجرد لها في انسيابية ماتعة؛وسلاسة متناهية؛وبراعة عالية؛محلّقاًبنا في آفاق روحه ؛وخياله المجنح.
ولكي تحتلّ التجربة مكانها اللائق انتقى شاعرنا سلسلة منتظمة من الألفاظ الموحية ؛المتوائمة مع تجربته الشعورية المشحونة بالقلق والتوتر بعيداً عن السوداوية المغرقة؛أو الإسفاف المقيت؛مع مراعاة الدقة والتركيز في استخدام المفردات ؛كما في هذا البناء المعماري المحكم :غاسق ملتهب؛مشرعِ مضطرِبْ؛جذوةُ التشتيتِ ؛
طيفٌ حارقٌ بالجوى/يُشعل من إعصاره الملتهبْ/ زفرةٌ حرّى
كلُّ تلك التراكيب اللغوية ؛-وهي تقيم علاقات جديدة فيما بينها- متآزرة تماماً في دلالاتها ؛ إلى جانب نهوضها الوافي برسم ملامح بطل النصّ؛والجو المحيط به؛الذي من الممكن أنْ يعدَّ انعكاساً لبعض مظاهر الواقع المتأزّم الذي نحياه.
ولايفوتني أنْ أنوّه بفنّ استثمار شاعرنا أدواته التصويرية خير استثمار؛ بحيث استحالت المعنويات فيها إلى محسوسات؛ساهمت في إبراز التجربة إلى حيّز الوجود.
كما أنَّ عنصريْ التشخيص والتجسيم واضحان في نصه؛كقوله:
(وزفرةٌ حرّى طوتْ روحه)أو قوله:
(يغيبُ عنه الأنسُ ).
– التشكيل اللغوي الزمني؛في استخدام الفعلين (الماضي والمضارع) ؛ملمحٌ بارز في النص؛ ساهم في منح التجربة حرارتها وحضورها وواقعيتها.
وإذا كان الشعر كما يقول النقاد «فن تكثيف الانفعال» فهذه التجربة من التجارب الرمزية المكثَّفة؛التي لم توغل في الرمز إلى حد الإبهام؛بل أخذتْ منه بنصيبٍ وافر مدروس بعناية؛ذلك لأنَّ شاعرنا مستوعب تمام الاستيعاب روح الفن الأصيل؛وأعرافه ؛وأسراره؛وممتلكٌ باقتدار نواصي الإبداع على طول الخط.
لقد قيل عن مهمة الشاعر ماقيل؛في الدراسات النقديةالعديدة؛ولعلّ من من أبرزها فيما يرى (إليوت) :«أن يخلق الشاعر موقفاً معيناً يعادل الوجدان الذي يريد التعبير عنه؛وذلك في سبيل الهروب من انفعالاته الفردية»؛وربما صحّ هذا القول على تجربة شاعرنا المتحدثة عن غائبه الحميم.
إنَّ لوعة أسى الشاعر؛وانفعال كلماته المتتابعة؛وانعكاساتُ مرآته النفسية ؛وتصويراته المتوهجة؛بواسطة عدسة فنّه الوضَّاءة؛استرعتْ انتباهي ؛وأملَتْ عليَّ أن أتضامن مع آلامه الملتهبة؛مستعيراً بيت الشاعربدوي الجبل؛الذي يقول فيه :
أفي كلّ يوم لوعةٌ بعد لوعةٍ
لغربة أهلٍ أو لفقد حبيب ؟!
وقصارى القول: أننا هنا إزاء قصيدة غنائية ؛وجدانية الملامح والقسمات؛لاتشوبها شائبة من حشوٍ أوتعقيد ؛
حاولت الوقوف على بعض خطراتها متجاوباً مع أصداء قيثارتة المِرنانة؛ واستجابةً لقول الشاعر القديم:
وَلا بُدَّ مِن شَكوى إِلى ذي مُروءَةٍ
يُواسيكَ أَو يُسليكَ أَو يَتَوَجَّعُ!
تحيةً عاطرة لشاعرنا الفذّ؛ ولمسيرته الشعرية الخصبة؛ولتجلياته النقدية؛التي طالما أرتنا ماوراء الفنِّ من أبعادٍ فنيَّة وغايات جمالية؛بواسطة بوصلته الدقيقة؛وإشراقاته الصائبة.
وإن يكن«أذاب روح تبره الخالص»
في هذه المعزوفة النقيَّة الصافية ؛فذلك دأبه في عرائسِ شعره المؤتلق؛مماحفل بها ديوانه (نأي الدروب)؛
وآخر دعوانا أنِ الحمد لله.

مكة المكرمة
11ربيع أول١٤٤٥هجرية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com