المقالات

قال القريب: اقتلوه. وقال الغريب: أكرمي مثواه

استوقفتني هذه العبارة كثيرًا، وهي من أقوى التعبيرات في سورة يوسف عليه السلام. ذكرها الله عز وجل عبرةً وعظةً لما تحمله في مدلولها من تحليل دقيق للنوايا والاتجاهات الإنسانية. فطبيعة النفس البشرية طبيعة معقدة وغامضة ومتغيرة، يصعب تفسيرها على نسق واحد، كما يصعب ديمومة سلوكها طوال الحياة. هذه الطبيعة الصعبة يشوبها كثير من التناقضات والتصرفات التي تعزز الغموض وتزيد من درجة التعقيد التي يقف علماء النفس والمهتمون بتحليل الشخصية أمامها عاجزين عن ضبط سلوكها، حائرين في اتجاهاتها وتصرفاتها، برغم كل التجارب والأبحاث المتراكمة التي ركزت على هذه الجوانب وحاولت تفسير السلوك الإنساني.

ويبدو أن الاقتراب والاغتراب مفهومان يحددان كثيرًا من اتجاه العلاقات الإنسانية. فالقرب يزيد الاحتكاك ويولد المشكلات، وبخاصة إذا كان قربًا مندمجًا ضاغطًا لا يعطي أي مساحة للاستقلال والحرية. كما في قصة يوسف عليه السلام، إذ نتج من تربص إخوته به ومتابعتهم لمحبة أبيهم له ركام من البغضاء والحسد، تحول إلى سلوك عدواني اختصروه بكلمة: “اقتلوا يوسف يخلُ لكم وجه أبيكم”. أي أنهم اعتبروه العقبة العظمى بينهم وبين محبة أبيهم لهم. وهذا نتاج التفاعلات بين الأقارب والتزاحم حول الاستئثار بالمشاعر الأبوية ونيل أكبر قسط ممكن من الأرباح المادية والمعنوية.

وفي الجانب الآخر، قال البعيد: “أكرمي مثواه”، لأنه لا توجد مصالح ولا صراعات سابقة ولا أهداف مبطنة. فأتى هذا التعبير التلقائي بريئًا شفوقًا رحيمًا من البعيد الذي لا يمت بصلة بيوسف عليه السلام. إن هذا يعطينا الدلالة الواضحة على أن في الغرباء من الناس من يكون قربه خيرًا لنا من بعض الأقارب. ليس معنى ذلك قطع الأواصر والصلات أو البعد النهائي عن الأقارب، ففي قصة يوسف عليه السلام عادت الأسرة الواحدة بعد أن اتضحت الحقائق وآثره الله عليهم وفضله ورفع منزلته. لكن المعنى المقصود هو توضيح وبيان لحقيقة العلاقات الإنسانية حين تكون صافية وغير مسبوقة بتنافس محموم وصراعات عقيمة على الأفضلية تنتهي بالقطيعة والتنافر والتناحر.

وفي هذا الصدد، صوّر الإمام الشافعي رحمه الله تعالى وصفًا مختصرًا لهذه العلاقات بقوله:

إِذا المَرءُ لا يَرعاكَ إِلّا تَكَلُّفًا
فَدَعهُ وَلا تُكثِر عَلَيهِ التَأَسُّفَا
فَفي الناسِ أَبدالٌ وَفي التَركِ راحَةٌ
وَفي القَلبِ صَبرٌ لِلحَبيبِ وَلَو جَفَا

إن في الناس من يمكنك أن تستبدله عن أقرب الأقربين لطيبة نفسه وسمو أخلاقه، فتتحول العلاقة معه إلى أخوة لم تلذها أم ولم تربطها رابطة، وترتقي إلى مرحلة العطاء والإيثار والإكرام. فمن الطبيعي أن يكون في الناس من يحمل الخير في صدره ويرغب في مساعدة الآخرين والعطف عليه أكثر من أقاربه الذين قطعوه وهجروه ونبذوه وتحزبوا ضده. فحقيقة النفس البشرية أنها تتسم بالشح وحب الذات، وتقوى هذه السمات لتتحول إلى سلوك الحسد والبغضاء، وخصوصًا ضد القرابة والأصدقاء. فلذا كان تعبير “أكرمي مثواه” إشارة إلى نجاح علاقات الغرباء غالبًا على القرابة، وجمال العلاقة الإنسانية ككل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى