إيوان مكةالمقالات

قراءة في قصيدة «من علّق الماضي على الأسوار ؟!»، للدكتورة مستورة العرابي

“من علّق الماضي على الأسوار ؟!”

لم ألتمس قبساً
يقيني كان بي أولى
من النار النجيّة
لي انتماءاتي إلى نفسي القريبة
أملأ الموّال وسط قصائد النجوى
وأخسر في احتراقي نجمةً
وأظلُّ أسعى

***
تبقى الحياة طريقةً للحبّ
لا يكفي اعتذارٌ كي نُبّرر وجهةً أخرى
التخوم الجاهلية لا تُفكّر في الحقيقة
أرضنا الأولى التأمّل في المرايا
من يراكَ ومن يُحاول أن يُفسّر ما اعتراكَ
وأنت تفتح للهوى الغربيّ نَبعا
***
ولهٌ بريءٌ في الشغاف
تُطيح به المواقف كلّ يومٍ
قبل أن ينسى براءته
البقاء على انحيازٍ للهناءات البعيدة
يستطيع توقّع الآتي ويُنصتُ
حيث لا رئةٌ تتوق إليك سمعا
***
من علّق الماضي على الأسوار
من أقصى التوتّر من فصاحتهِ الشريدة
من نأى في الغيب
لا تشقى به الكلمات
يعرف كيف ينجو من فجائع نفسهِ
الأيام لا تخشى
فكن خطأً غريزياً
وخذ من ظلّك الجمعيّ دمعا
***
للماء
أن يجد المساحة كي يُغنّي
حاذقٌ هذا الهواء
فما انتهى منّا انتهى عتَبَاً مشاعاً
في الجبال
نُعيد ترتيب الجسارة
كلّ ذاكرةٍ مزاجٌ مسرحيٌّ ناجزٌ
ماذا تسمّى الريح إلا الريح في الطرق الفسيحة
لم يأخذ أغانينا الغياب
وأيّ عشبٍ لم يعُد للقلب مرعى.
___________________

قصيدة الشاعرة الدكتورة مستورة العرابي، التي بين أيدينا تعد نصًّا فنّيًا بالغ الثراء والعمق، يستدعي تأملات فلسفية وجمالية متعددة. إنها تتجاوز الوصف السطحي للعواطف والأفكار لتقدم رؤية عميقة ومعقدة للعالم الداخلي والخارجي.
إن قدرة القصيدة على إثارة التساؤلات وترك باب التأويل مشرعًا يجعل منها عملًا فنيًا حيويًا ودائمًا.
تنتمي القصيدة إلى نمط الشعر التأملي الرمزي، وكتبت بلغةٍ مشبعة بالإيحاءات، موغلة في الذات، ومعتمدة على التداعي الحر والصور المجازية المركّبة، مما يمنحها طابعًا وجوديًا وفلسفيًا أكثر من كونها سردًا شعريًا مباشرًا.
لنغوص فيها قليلا وفق المحاور التالية:
1. البناء والتركيب:
• التناوب بين المقاطع: هناك توازن وتناغم في الانتقال بين المقاطع المختلفة. كل مقطع يقدم فكرة أو حالة شعورية جديدة، لكنها تتصل ببعضها البعض عبر خيط دقيق من الانفعال والتساؤل.
• الفواصل بين المقاطع (***)، تعمل كعلامات تنفس أو وقفات تأملية، تدعو القارئ للتفكير فيما سبق والانتقال إلى فضاء شعوري جديد.
• التكرار المفتتح: يبدأ وينتهي المقطع الأول والرابع بالتساؤل الاستنكاري “من علّق الماضي على الأسوار؟!”. هذا التكرار يخلق إطارًا دائريًا للقصيدة، ويؤكد على ثيمة مركزية تتعلق بالتعلق بالماضي وتأثيره، أو ربما محاولة التحرر منه. هذا التكرار ليس مجرد صدى، بل يحمل في كل مرة دلالات إضافية تأتي من السياق الشعري المحيط به.
• التنوع في طول الجمل: تتراوح الجمل بين القصر والتطويل، مما يخلق إيقاعًا حيويًا ومتنوعًا. الجمل القصيرة تحمل قوة التركيز والتأكيد، بينما تمنح الجمل الطويلة مساحة للتفصيل والتأمل.
2. اللغة والصورة الشعرية:
• الاقتصاد اللغوي والتركيز: على الرغم من عمق المعاني، تتميز اللغة بقدر من الاقتصاد والتركيز. كل كلمة تبدو مختارة بعناية وتحمل دلالة مقصودة.
• الصورة الحسية المجردة: تستخدم الشاعرة صورًا حسية (“النار النجيّة”، “نجمة”، “الهوى الغربيّ”، “رئة”) لكن تلك الصور غالبًا ما تُستخدم بطريقة مجردة أو رمزية، مما يفتح الباب لتأويلات متعددة. “النار النجيّة” ليست مجرد نار، بل قد ترمز إلى تجربة قاسية لكنها ضرورية للتطهير أو اليقين الذاتي.
• التشبيهات والاستعارات الضمنية: هناك استخدام ماهر للتشبيهات والاستعارات الضمنية التي لا تُصرّح بها بشكل مباشر، بل تتكشف من خلال السياق.
“أرضنا الأولى التأمّل في المرايا”، تشبيه عميق للذات أو الوعي الداخلي كمصدر للمعرفة.
. تراسل الحواس (حيث لا رئةٌ تتوق إليك سمعا). الرئة ليست مسؤولة عن السمع بل عن التنفس. ولكنه إبداع الشاعرة وتوظيفها لما يعرف بتراسل الحواس.
• التجريد الفلسفي: تتضمن القصيدة عبارات ذات طابع تجريدي وفلسفي عميق مثل “تبقى الحياة طريقةً للحبّ”، “التخوم الجاهلية لا تُفكّر في الحقيقة”، “كلّ ذاكرةٍ مزاجٌ مسرحيٌّ ناجزٌ”. هذه العبارات تدعو إلى التفكير في طبيعة الوجود، الحب، المعرفة، والذاكرة.
• الاستخدام المبتكر للأفعال: اختيار الأفعال دقيق ومعبر. أفعال مثل “علّق”، “ألتمس”، “يُطيح”، “ينجو”، “يُغنّي” تحمل طاقة ودلالة قوية.
• التناص المخدوم:
تكثر الشاعرة من (التناصات) الثقافية الخافتة، مثل الإشارة إلى “النار النجيّة” (فيها استدعاء ضمني لحكاية النبي موسى عليه السلام) أو “الهوى الغربيّ” كرمز ثقافي/اجتماعي.

3. الثيمات والأفكار:
• التعامل مع الماضي: الثيمة المركزية التي يطرحها التساؤل المتكرر حول تعليق الماضي على الأسوار. هل هو عبء؟ هل هو مرجع؟ هل هو شيء يجب التخلي عنه؟ القصيدة لا تقدم إجابة واضحة، بل تترك المجال للتفكير في علاقتنا بالزمن الماضي.
• اليقين الذاتي والانتماء: هناك تأكيد على أهمية اليقين الداخلي (“يقيني كان بي أولى”) والانتماء إلى الذات (“لي انتماءاتي إلى نفسي القريبة”) في مواجهة المؤثرات الخارجية.
• الحب والحياة: يُقدّم الحب كطريقة للعيش، لكنه ليس طريقًا سهلًا أو مباشرًا، ويتطلب تجاوز الأعذار والتبريرات.
• الحقيقة والوهم: تطرح القصيدة تساؤلات حول طبيعة الحقيقة وكيف يتم إدراكها أو تجاهلها (“التخوم الجاهلية لا تُفكّر في الحقيقة”).
• البراءة والفقد: يستحضر المقطع الثالث صورة “ولهٌ بريءٌ” يتعرض للخطر وربما الفقد بسبب “المواقف”، مما يثير تساؤلات حول هشاشة البراءة في عالم مليء بالتحديات.
• القدرة على التجاوز والنجاة: يبرز المقطع الرابع فكرة القدرة على النجاة من “فجائع النفس” وعدم الخوف من الأيام، بل حتى اعتبار الخطأ جزءًا غريزيًا من التجربة.
• التعبير عن الذات والحرية: يختتم المقطع الخامس بصور حيوية عن الماء الذي يجد مساحة للغناء والريح التي لا تنتهي عتبًا، مما يوحي بإمكانية التعبير عن الذات والتحرر من القيود.
القصيدة بلا وحدة موضوعية تقليدية، لكنها تتماسك وفق ثيمات داخلية متكررة: (الذاكرة، الحب، الاحتراق، المرايا، الغياب، التأمل)، ما يجعلها أقرب إلى شذرات متصلة بخيط تأملي.

4. الإيقاع والموسيقى الداخلية:
• التنوع الإيقاعي: على الرغم من عدم الالتزام بوزن أو قافية تقليدية، تتمتع القصيدة بإيقاع داخلي ثري ينبع من توزيع الكلمات والجمل، وتكرار بعض الأصوات والحروف.
• الجرس اللغوي: هناك حساسية واضحة للجرس اللغوي للكلمات المختارة، مما يضفي على النص نغمًا خاصًا.
ختامًا:
القصيدة تمنح القارىء متعة ذهنية من خلال لغتها العالية وصورها المجازية المعقدة، ونبرتها الشاعرية، واستفزازها لعوالم التأمل المفتوحة الكامنة في أعماق المتلقين
غير أنّها تحتاج إلى قارئ متذوّق وملمّ برمزية الشعر الحديث، وقد يجدها القارئ العادي عصية على التفسير.
____________
* نشرت القصيدة ضمن العدد العاشر الصادر مؤخرا عن (نشرة تناص البريدية)، وهي نشرة يصدرها كرسي الأدب السعودي.

خلف سرحان القرشي

مؤلف ومترجم ومدرب في الكاتبة الإبداعية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى