المقالات

الطائف منبع الهوية الموسيقىة

تُعد مدينة الطائف من أعرق المدن في شبه الجزيرة العربية، وقد امتلكت عبر العصور شخصية ثقافية متميزة انعكست في فنونها ومظاهرها الحضارية، ومن أبرز هذه المظاهر الموسيقى التي لم تكن مجرد ترف أو وسيلة طرب،
بل شكلت جزءًا جوهريًا من الهوية الطائفية والثقافة المجتمعية للمدينة.
عُرفت الطائف منذ القدم بكونها مدينة ذات طابع زراعي وجمالي مميز، ساعدها موقعها الجغرافي ومناخها المعتدل
في أن تكون مهوى أفئدة القادة والمثقفين والشعراء،
حتى أن الحارث بن كلدة الثقفي – طبيب العرب الشهير – كان يفتخر بانتمائه للطائف،
وقد ورد في أخبار العرب أنها كانت مصيف قريش ومقر راحة الشعراء والوجهاء،
مما مهّد لأن تكون مركزًا لتذوق الفنون وعلى رأسها الموسيقى. وقد كتب المؤرخون عن الطائف بوصفها مدينة “الورد والغناء”، وقديمًا قيل:
إذا اشتد حرّ مكة، فطريقك الطائف، حيث الورد والماء والنغم
وفي العصر الجاهلي وبدايات الإسلام، برزت الطائف كمهد للفن الغنائي، حيث خرج منها عدد من المغنين الذين أسسوا لمدرسة الحجاز الغنائية،
ومن أبرزهم (سائب خاثر )
الذي يُنسب إليه إدخال الإيقاع على الغناء العربي في المدينة المنورة،
وكان المغني الأول الذي تبنّى مقامات غنائية مدروسة بدلاً من التلقين العفوي،
ويذكر أبو الفرج الأصفهاني في “الأغاني
أن سائب خاثر كان أول من غنّى الغناء المتقن في الإسلام
وهو من الطائف أصلاً، كما كانت قينات الطائف من أشهر المغنيات في الحجاز، يحملن ثقافة موسيقية متقدمة،
وقد تربّى على أيديهن عدد من المغنين الذين أصبحوا من أعلام الموسيقى في الدولة الأموية
مثل معبد وابن محرز،
وكان يُقال:
من لم يغنِّ في الطائف، لم يذق طعم النغم
وفي العصر العباسي، أصبح للطائف حضور بارز في المشهد الفني، حيث ورد
أن المغني ابن جامع،
أحد أشهر مغني العصر، زار الطائف وأقام بها مدة، تعلم خلالها طرائق جديدة في الغناء من مغنييها ومغنياتها،
ثم عاد إلى بغداد حاملاً معه تلك النكهات الحجازية الطائفية،
وكان الخلفاء يرسلون أبناءهم إلى الحجاز ليتعلموا الذوق، لا سيما في مكة والطائف،
حيث يجتمع الجمال الطبيعي بالأداء الغنائي الرفيع.
لم تكن الموسيقى في الطائف منفصلة عن الهوية الثقافية، بل كانت جزءًا منها، وكانت الأغاني الطائفية تدور حول مفردات الحب، المطر، الزهر، الورد، والطبيعة،
وكلها دلالات على الانتماء إلى بيئة ناعمة ومسالمة ومُحبّة للفنون، كما ارتبطت الفلسفة الجمالية في الطائف بتقديس الجمال الطبيعي، إذ كان الغناء يُمارَس في البساتين وفي موسم الورد الذي يُعدّ احتفالًا سنويًا جماعيًا تُلقى فيه القصائد وتُغنّى الأهازيج، فتندمج الطبيعة بالفن في وحدة حضارية أصيلة. وفي العصر الحديث، حافظت الطائف على هذا الإرث الفني، بل وتحوّلت خلال فصل الصيف إلى مقصد للفنانين والمطربين من مختلف أنحاء المملكة، خاصة من مكة وجدة، الذين كانوا يأتون للاصطياف ويقيمون حفلات غنائية في البساتين والحدائق الغناء التي تترامى على أطراف الطائف، لا سيما في منطقة المثناة المشهورة بحدائقها وبساتينها، حيث كانت تُنظَّم الحفلات للرجال والنساء في أمسيات منفصلة، ويُعد هذا من صور الانضباط الاجتماعي الذي رافق هذا الحراك الفني، وقد شهدت المدينة خلال الصيف نوعًا من الحراك الثقافي كان يحظى باهتمام مجتمعي ويُتابَع أحيانًا من مسؤولي الدولة، واعتُبرت هذه الأنشطة جزءًا من الحركة الفنية الراقية التي شكّلت هوية الطائف الحديثة، وأسهمت في ترويجها كمصيف وملتقى للفن الأصيل. حتى اليوم، ما زالت الطائف تحتفظ بأنماط موسيقية تقليدية تُمارس في المناسبات الاجتماعية مثل المجرور الطائفي وفن الزير والعرضة الجنوبية، وهي فنون تعتمد على الإيقاع الجماعي والرقصات الشعبية وتُظهر البعد الاجتماعي للموسيقى، حيث يتحوّل الغناء إلى أداة للتلاحم والفرح الجماعي، كما يُعد موسم الورد الطائفي مناسبة فنية وثقافية بامتياز تُنظَّم فيه أمسيات شعرية وغنائية تُبرز ارتباط الطائف بالنغم كأحد أركان هويتها الثقافية. يتضح من السرد التاريخي والأدبي أن الموسيقى في الطائف ليست ظاهرة طارئة بل هي متجذّرة في وجدان المدينة وساكنيها، تمثل امتدادًا لحضارة عريقة تحتفي بالجمال وتحتضن الفن بوصفه هوية ورسالة حضارية، وقد ظلت الطائف عبر القرون مركزًا لتلاقي الشعر والموسيقى والطبيعة وشكّلت مدرسة فنية مستقلة ما زالت أصداؤها حية في الذاكرة الثقافية للحجاز وللعالم العربي كله

أ. د. عائض محمد الزهراني

نائب الرئيس لإتحاد الأكاديميين والعلماء العرب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى