المقالات

عن أبو شلاخ البرمائي

العنوان أعلاه اسم رواية للأديب الشاعر الراحل د. غازي القصيبي، رحمه الله، والشلاخ هو الكذاب المحترف، وجعله القصيبي برمائيا للإيحاء بأن بطل الرواية يمارس الشلخ في البحر واليابسة، أي أنه كما الموت يدرككم أينما كنتم

“ابو شلاخ البرمائي”، رواية صدرت عام 2002، استطاع القصيبي من خلالها ان يقول رأيه في العديد من القضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية والعلمية، مستترا وراء المجني عليه أبي شلاخ، الذي مارس القصيبي من خلاله الشلخ، وهو الكذب الجسيم والمبالغة، تفادياً للمباشرة والتقريرية الفجة

يبدأ القصيبي روايته بكذبة بلقاء عن مولد أبي شلاخ بعد ان سحبته القابلة/ الداية  من يده، بدلا من راسه، ولم يحدد القصيبي سنة الميلاد، لأن التلاعب بالتاريخ والجغرافيا وقوانين الطبيعة، هو جوهر التشليخ القصيبي، فالمؤلف سافر بأبي شلاخ إلى الماضي ثم عاد به إلى المستقبل، مستخدماً أدوات لم تكن قد اختُرعت، ليلتقي بهتلر والرئيس الأمريكي الأسبق جونسون وغيرهما، ويلعن ابو شلاخ “سنسفيلنا” بلا هوادة ولكن بغير إقذاع، ذلك ان القصيبي ساخر مطبوع تحدثا ونثرا وشعرا، ولم تفلح قيود المناصب الوزارية في لجم لسانه، ولعل أقذع النقد الاجتماعي في الكتاب، هو الذي بذله عبر وقائع سريالية، في مسائل العمالة الوافدة ونظام الكفيل والخادمات الآسيويات والعصبية القبلية والأسرية.

      واعتقد ان القيمة الكبرى لـ “أبو شلاخ البرمائي،  هي كونه أول عمل أدبي ساخر بالكامل في قالب روائي في تاريخ الأدب العربي ( لا مجال للمقارنة بمؤلفات الجاحظ والتي في جوهرها رصد سردي لأحوال عصره، وناس وبهائم ذلك العصر، ولا بأعمال القصيبي الأخرى التي لا تقوم كليا على السخرية)، وقد نجح القصيبي في إضفاء الترابط على تشليخاته، التي رمى بها يعقوب أبو شلاخ وانسل، بان جعل هناك خيطاً رفيعاً كخيط المسبحة، لا يكاد يُرَى، يشد الوقائع إلى بعضها، فهناك “وديعة روزفلت” الرئيس الأمريكي الأسبق الذي كان يستعين بأبي شلاخ في الملمات، ومن ثم أوصى خلفاءه به خيرا، وهكذا أصبح في مقدور أبي شلاخ ان يزور الولايات المتحدة في مختلف العهود، ناصحا ومحللا وناقدا، وبذلك نجح في إقناع جون كينيدي ان يعمل في شركة وكمارا وهي ارامكو (بعد قلب حروفها)،  وبذلك تسنى له ان يربط الأحداث المحلية بالعالمية، فخلق بالتشليخ عالما بهيا من الفنتازيا.

      وبرغم ان الكتاب يقوم على الشلخ، الذي هو الكذب والمبالغة كما أسلفنا، إلا ان جوهره ابعد ما يكون عن الشلخ، فالقصيبي يستغل إلمامه بسيرة ومسيرة التحولات الكبرى في السعودية، وعموم منطقة الشرق الأوسط، ويقوم بتشريح الحقب التي عاصرها، مستعيناً بخبراء أفذاذ من “تأليفه وإخراجه”، وأدهشني ان الرجل الذي ياما قال حاسدوه أنه صنيعة للغرب، رصد بقسوة شديدة الوقائع التي تثبت مدى تآمر ذلك الغرب على الشعوب المستضعفة، وكال لأميركا النقد بالطن المتري، بينما كان واضحا أنه يكنُّ احتراما بلا حدود لالمناضل الفيتنامي الجسور هوشي منه، في معركته ضد الوجود الأمريكي في جنوب فيتنام، وحدث نفس الشيء عندما قابل ارنستو تشي غيفارا، ذلك الثوري الحالم، وكاد القصيبي ان ينشد مع احمد فؤاد نجم:  غيفارا مات يا انتيكات… يا دفيانين ومولعين الدفايات.. يا بتوع نضال آخر زمن في العوامات

واستخدم المؤلف بطل الرواية ” يعقوب أبو شلاخ” أداة لإبداء رأيه في عدد من القضايا المعاصرة، ولو لم يشلخ صاحبنا لجاء الكتاب باردا وتقريريا، واستثمر قدرات أبو شلاخ الإبداعية لرد الاعتبار للعرب، فنسب إليهم معظم المخترعات، ومن بينها المضادات الحيوية التي استولدها طبيبان، (وهذا اسم علم مفرد، وليس مثنى “طبيب”)، من روث البعارين، ممزوجة بأجنحة الجراد المجففة والفلفل الحار. 

       

وفي سياق التشليخ البرمائي استعرض القصيبي ملكته الفذة في السخرية، في استيلاد استعارات وتشبيهات وحيل بلاغية حبلى بالمعاني:  فهنالك الجحش قوة 800 حصان، وهناك الصحافي العربي اللامع ولعة ابو سيكل، صاحب عمود بـ”وكاحة”، (يقصد الصحفي المصري الراحل محمد حسنين هيكل صاحب عمود “بصراحة” في جريدة الأهرام المصرية) والذي تحدث القصيبي عن “قدرته الفذة على استنطاق الزعماء الموتى، أو نحسهم بأن يموتوا فور لقائه بهم”. وفي المدرسة كان ابو شلاخ متفوقا، وجاء ترتيبه الأول على طلاب القطر البالغ عددهم ستة، ولاحقا حاور ابو شلاخ هتلر، فانفعل الأخير وسأله: وش تبي؟  (ماذا تريد)، وفي شركة وكمارا (ارامكو) كان مكتب المدير الأمريكي ” كيلو في كيلو”، بينما كان هناك كمب (مخيم) مخصص للحيوانات وبقية فئات الموظفين

وأبوشلاخ البرمائي نال حظاً قليلا من التعليم (ولا عليك انه حصل على دكتوراه من أميركا)، وما كان ممكنا ان يقول شعرا فصيحا،فكانت تلك فرصة ذهبية للقصيبي ليؤكد طول باعه في الشعر النبطي، أي العامي، وما لم يكن دماغك مقدودا من صخر، فإنك ستخرج عن وقارك عندما تستمع إلى تشرتشل وروزفلت ومارلين مونرو وترومان يتحدثون عن البعارين والتمور والحمير شعرا ونثرا.

يقول أبو شلاخ عندما طاح صريع غرام الحسناء الأميركية ريتا: “لما شفتك قلت طز في الإنجليز”، ولعلمكم فـ “طز” ليست كلمة نابية بل تركية تعني “الملح”، ويقال إن  الباشبزق (جباة الضرائب الأتراك)، وكان مشهودا لهم بالقسوة، كانوا يعتبرون الملح سلعة تافهة ولا يفرضون عليها ضرائب، فكان التاجر الذي يتعرض لمداهمة منهم يقول عن محتوى بعض متجره المخبأة في أكياس “طز”، اي ملح، وشيئا فشيئا صارت الكلمة تستخدم تعبيرا عن الاستخفاف بالناس والأشياء.

      والقارئ بين سطور التشليخات القصيبية، يجد فيها نوستالجيا تجاه منطقة الهفوف التي نشأ فيها الكاتب، فرغم أنه غادر تلك المنطقة منذ عقود طويلة إلا أنه لم ينس تفاصيل الحياة فيها، ولخص ذلك في قصيدة له نشرتها بعض الصحف السعودية سمى فيها الهفوف أم النخيل:

طال الفراق وعذري ما أنوء به

يا أم طفلك مكبول بما حمَلا

يا أم ردي على قلبي طفولته

وارجعي لي شبابا ناعما أفلا

أشكو إليك من الستين ما خَضَبت

من لي بشيب إذا عاتبته نصلا

تهامس الغيد “ياعمي” فوا أسفا

أصير عمّاً وكنت اليافع الغزلا

وهل يستطيع أحد أن يرثي القصيبي بصدق كما فعل حبيبه الراحل عبد الرحمن رفيع عليهما رحمات الله:

سأكتب عنه اليوم كي أظهر الفضلا

ومن ذا الذي في فضله يدعي الجهلا

سأكتب عن غازي فتى الشعر هائما

بحب «أوال» ينشد البحر والنخلا

ستبقى على ثغر الزمان رواية

وتبلى الليالي الفانيات ولا تبلى

جعفر عباس

كاتب صحفي (ساخر)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى