المقالات

فات أوان لو ويا ليت

«زاوية منفرجة»

قبل سنوات طلبت مني مجلة المعرفة المحترمة جدا، والتي كانت تصدرها وزارة التربية والتعليم السعودية أن أسهم في ملف لها بمقال حول العودة الافتراضية الى فترة الشباب، (صدرت المجلة عام 1959، وكان وزير المعارف=التربية والتعليم وقتها، العاهل السعودي الراحل فهد بن عبد العزيز. وعلى ذمة ويكبيديا فقد توقفت عن الصدور قبل 7 أعوام). أعجبتني الفكرة، لأنني لست بحاجة الى عودة افتراضية إلى سن الشباب، لأنني “لسه/ بعدني/ ما زلت شباب”، ولو كره الحاقدون. ولكن وبصراحة أكثر، أعجبت بالموضوع لأنه لا يتعلق بالعودة ولو الافتراضية إلى مرحلة الطفولة، التي لا أذكر عنها سوى الخوف من العقارب والتماسيح في النيل والجن الذين كانوا يتخذون من خرابة قريبة من بيتنا “قيادة قطرية وقومية” ولديهم شبيحة يقطعون الطريق على الناس، ولكنهم كانوا أكثر رأفة من شبيحة فشار الأسد الذين كانوا يبقرون البطون”. يعني لو كان الكلام يتعلق بالعودة الى الطفولة، لكتبت بضع كلمات مفادها “شكرا الله سعيكم، فليس لدي أدنى رغبة في تلك العودة، أو تذكُّر أي شي يتعلق بها، فاتركوني في حالي”. اما لو تسنى لي العودة الى مرحلة الشباب “الأولى” أي قبل سنوات معدودة (ولا أفهم لماذا افترضت المجلة أنني غادرت تلك المرحلة، رغم أنني لا أبوح بعمري الحقيقي إلا أمام زوجتي، وبالتحديد عندما أرفض تلبية طلب منها بأداء مهمة ما، أو تعاتبني على عدم أدائها على الوجه المطلوب، فأتعلل ب”عامل السن”).  ما علينا، هناك أشياء كثيرة كنت سأفعلها لو عدت القهقرى الى الشباب (ما بين ال15 وال25)، وأولها ترك مقاعد الدارسة وادعاء القداسة! ففي السودان لا سبيل أمامك للحصول على منصب كامل الدسم ما لم تكن منضويا في تنظيم سياسي، ولكن “الانضواء” وحده لا يكفي لنيل مثل ذلك المنصب، فالأحزاب التي تسيطر على مقاليد الأمور عندنا، يقودها أناس يقال إنهم من ذوي الكرامات والبركات الذين يأتون الخوارق (هذا رغم ان قدراتهم تلك لا تتجلى أبدا عندما يطيح بهم العسكر). وأعرف في دواخل تجاويف قولولني انني ابن عائلة “لا راحت ولا جاءت، ولا تحل ولا تربط”، ولكن من السهل الحصول على خبير في علم النباتات البشري، يزرع شجرة عائلة قد تنتهي بشخص مثلي عند ابن خلدون مثلا، فيصبح في مقدوري الزعم بأنني من سلالة مباركة وتنفتح أمامي أبواب الوزارات والهيئات شبه المستقلة التي لديها ميزانيات خاصة لا تخضع للمراقبة المحاسبية. وأرجو من القارئ ألّا يتشطر ويصيح: ولكن ابن خلدون لم يزعم انه من أصحاب البركات أو أن عائلته “مباركة”! هذا صحيح ولكن المواطن العادي الذي يساق الى صناديق الاقتراع لا يعرف ذلك، وعلى كل حال ف 95% من ابناء عالمنا الثالث عشر هذا، يعتبرون كل من مات قبل 500سنة أو أكثر “مثلاً  أعلى”!! طيب ولماذا ترك مقعد الدارسة؟ بسيطة: لأن التعليم يعوق الطموح ويقتله، وكما يقول المثل الخليجي “من سبق لبق”! ما حاجتك الى تعليم جامعي وغيرك يترك مقعد الدراسة وهو مسلح بالكاد بشهادة “نحو الأمية”، ويصبح بطلا أولمبيا يقفز بالزانة من منصب الى آخر

ولو لم أنجح في استنبات شجرة عائلة مقنعة تكفل لي المنصب والوجاهة لعملت مطربا. صباح الشحرورة ظلت تغني منذ حفل التوقيع على معاهدة سايكس بيكو، وتسافر جوا من بلد الى آخر ويفرشون تحت أقدامها الدولارات. وتزوجت تسع مرات. ولو دخلت ميدان الغناء لربما كان البعض يهيم اليوم بجعفور الشحرور (للضرورات الفنية أحكام، واسم جعفر عباس لا يصلح إلا على واجهة مطعم او دكان حلاقة، ولو كنت أتحلى بأي قدر من بعد النظر لهاجرت في سن الشباب الى الغرب ثم عدت خبيرا أجنبيا ذا وزن وحيثية!)

رُب من يلقاك رحبا كسر الزير وراءك  لأنه يصعب تصنيف مقالاتي الصحفية (كثقافية أو سياسية او اجتماعية او فنية أو برمائية) فإنه يسهل علي استغلالها لتمرير أجندة خاصة، ولا يعني هذا انني اعتبر نفسي شخصا في اهمية فلادمير بوتين أو هيفاء وهبي، أو حتى شعبولا. بل أقصد انني، وخاصة في القضايا الاجتماعية، أفضفض عن هموم خاصة، (ذات إسقاطات عامة)، وقد اكتسبت هذه العادة من الكتابة في الصحف القطرية، فلأنني مقيم في قطر منذ سقوط دولة بني أمية، فإن معارفي فيها كثيرون، ومن ثم فإن مقالاتي فيها تكون أحيانا شخصانية للغاية. مثلا عندما أعرف أنني سألزم سرير المستشفى “لوعكة طارئة لم تمهله طويلا”!! فإنني أكتب بوضوح قائلا: يا ويل من لا يزورني في المستشفى. ويا ظلام ليل من يزورني هناك بعد 10 مساء وقبل 10 صباحا. وأعلن بكل بجاحة أنني اتشاءم من الورود لأنني أراها على الشاشات موضوعة على القبور، ومن ثم فان من يأتيني في المستشفى حاملا باقة ورد سيتعرض لمعاملة باردة وسخيفة.. وبالتالي فمن المستحسن وضع قيمة باقة الورد تحت مخدة سريري في المستشفى. (وضع الكمبيوتر الغبي خطّاً أحمر تحت كلمة “بجاحة” مفترضا أنها خطأ، ومعه بعض الحق، ففيما أعرف فإن كثيرين من العرب يعتبرونها كلمة عامية مصرية، مع أنها فصيحة، وتعني الجرأة غير المهذبة، وسوء الأدب، والوقاحة).

ما عليكم. قبل يوم من ذات شهر رمضان فضيل كتبت، في صحيفة قطرية معلناً أن برنامج عائلتي في رمضان وشوال وذي القعدة ومارس وأيلول، “سيم سيم”، لا تغيير فيه، وإنني لا أرحب بالزيارات في أوقات متأخرة من الليل، (يعني بعد التاسعة والنصف ليلا). وكانت النتيجة ايجابية، فقد تلقيت العديد من المكالمات الهاتفية: كنا نريد ان نزوركم لنبارك لكم الشهر، ولكنك كتبت قائلا ان زيارتكم بعد التاسعة والنصف مساء ممنوعة، بينما برنامجنا المسائي في رمضان يبدأ بعد الحادية عشرة ليلا!! ويحسب من يقولون لي ذلك أنني سأحس بالذنب لخروجي عن البدعة الاجتماعية التي تجعل من رمضان شهرا للخروج عن مألوف مواقيت وآداب التزاور والتواصل!! والذين عاتبوني هاتفيا بأسلوب غير مباشر كانوا في منتهى الذوق واللطف مقارنة بمن قرروا زيارتنا في وقت مبكر من المساء (لأننا نعرف أنكم تنامون مبكرين)، ثم يجلسون يتكلمون في الفاضي والمليان حتى منتصف الليل أو بعده بقليل أو كثير!!

قد يرى بعضكم في كلامي هذا جلافة وقلة ذوق! ومع هؤلاء البعض، بعض الحق، فقد نشأنا جميعا على مجاملة الآخرين على حساب ارتباطاتنا والتزاماتنا الخاصة، ولكنني وبكل صراحة “تعبت”، ولم أعد أتردد في ممارسة ما يعتبره البعض ومن بينهم زوجتي جلافة، فعندما يتصل بي شخص ما ليقول انه سيزورني في الساعة كذا فإنني قد أطلب منه بكل ذوق أن يؤجل زيارته الى وقت آخر لأنني “مرتبط”، أو “مرهق”، وأكون صادقا جدا: معليش الساعة 8 مساء مطالب بالمشاركة في ندوة على زوم!! معليش الساعة 8 مساء يا دوب أكون رجعت البيت لأن عندي دوام صباحي ومسائي!! وبات معظم من يعرفونني جيدا يتقبلون مثل تلك الأعذار عن طيب خاطر لأنهم يعرفون “مَعزَّتهم” عندي، وأنني لا أنفر منهم أو أحاول “توزيعهم”، ويعرفون أنني لا أجامل في أمور معينة، ولكن يبلغني أحيانا أن فلانا قال: كنا نريد زيارة جعفر ولكنه طردنا أو منعنا! والله المسألة ليس فيها طرد او منع، وأنا لا أزور أحدا دون سابق “موعد” ولا أدخل بيت شخص (إلا للعزاء الطارئ والمفاجئ) بعد التاسعة مساء. وإذا وجدت الشخص الذي أزوره كاشخا متأنقا بما يوحي بأنه كان على وشك الخروج من بيته فإنني أرغمه على الصوم لأنني أرفض الجلوس عنده، فيحلف بالطلاق ان أجلس فأتمسك بالرفض وانصرف. فيكون أمامه خيار الصوم تفاديا للطلاق.

جعفر عباس

كاتب صحفي (ساخر)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى