«زاوية منفرجة»
“يحزّ في نفسي أن كثيرين ينسبون عبارة «صدام الحضارات» للأمريكي صموئيل هنتنغتون، لا لشيء سوى أنه ألّف كتابًا بعنوانها، بينما كنتُ شخصيًا طرفًا أصيلًا في ذلك الصدام، عندما ابتُعثتُ إلى لندن لدراسة فنون العمل التلفزيوني، فدخلتُ في صدام مع السلم الكهربائي المتحرك، وقطار الأنفاق، والهاتف الناطق (أي الذي به رسائل مسجّلة يتم تفعيلها في حال عدم وجود شخص يردّ على المكالمة).
كان ذلك في سبعينات القرن الماضي، حين وصلتُ لندن حاملًا معي ثلاثة قمصان، وبنطلونين، وزوجين من الأحذية، وقد تبرّعتُ ببقية ملابسي لأصدقائي «المساكين»، لأنني كنتُ أعلم أن معظم الملابس التي كنتُ أتبختر بها في السودان لن تُعتبر صالحة للاستخدام الآدمي في لندن.
خذ في الاعتبار أنني عملتُ حينًا من الدهر في السفارة البريطانية في الخرطوم، وكان عدد كبير من المعلمين الذين جلست أمامهم طالبًا في المرحلتين الثانوية والجامعية بريطانيين، وكانوا شديدي العناية بملابسهم ومظهرهم الخارجي. وبصفة عامة، فما زال البريطانيون يعتنون بالهندام والأناقة خارج البيوت، بعكس الأمريكيين الذين يبدو أنهم – في السنوات الأخيرة تحديدًا – اتخذوا من الراحل معمر القذافي والمطرب «المُضَرَّس» شعبولا قدوةً في شؤون الأناقة.
كان من أولوياتنا نحن المبتعثين الخمسة إلى لندن الذهاب إلى شارع أوكسفورد لشراء ملابس «عليها القيمة»، ولكننا أصبنا بخيبة أمل لأن الأسعار كانت نارًا، فاشترى كلٌّ منا عددًا محدودًا من الملبوسات على أمل اكتشاف مكانٍ مشابهٍ لسوق سعد قشرة في لندن.
وسعد قشرة هو تاجر يمني كان يملك بقالة تطل على ميدان في مدينة الخرطوم بحري، حمل الميدان اسمه لاحقًا، وصار سوقًا شعبيًا تُباع فيه كافة أصناف الملبوسات بأسعار تناسب مختلف الطبقات الاجتماعية.
وذات نهارٍ لندني، دخل علينا أحد أفراد مجموعتنا، وطلب منا أن نذهب معه إلى متجرٍ صغير يبيع الملابس بأسعارٍ أقل من رمزية، وخلال دقائق كنا في المتجر، وكان ما قاله صاحبنا صحيحًا: الجاكيت بجنيهين إسترلينيين، والقميص بنصف جنيه، والبنطلون – من أي شكلٍ ولون – بجنيهٍ واحد.
فاشتريت نحو خمسة عشر قميصًا، وعشرة بنطلونات، وثلاثة جاكيتات. وهناك من اشترى ضعف ما اشتريته. ووقفنا أمام صاحب المتجر لدفع قيمة مشترياتنا، فإذا به يتحدث عن الـ receipt (الإيصال)، فسألناه متعجبين: كيف نُبرز إيصال بضاعةٍ لم نسدد قيمتها بعد؟ أليس صاحب البضاعة هو من يمنح المشتري الإيصال؟
فجأة زأر الرجل بصوتٍ شعبوليٍّ غاضب:
“ريسييييت يو باستردرز!”
أُصِبنا بالذهول؛ ليس فقط لأنه وصفنا بأننا مجهولو الآباء، بل لأنه من المعهود أن يبتسم التاجر في وجه الزبون الذي يشتري منه البضاعة بكمياتٍ كبيرة، لا أن يصرخ في وجهه!
وكان واضحًا أن هناك سوء تفاهمٍ بيننا رغم أننا كنا نتحدث الإنجليزية بطلاقة. وبعد قليل، خرج الرجل من خلف الكاونتر وأمسكني من ذراعي بعنف وجرّني خارج المحل، وأشار إلى لوحةٍ مرفوعةٍ عند المدخل. قرأت الكلمات المكتوبة فيها، وعرفت عندها أنني في ورطة؛ فقد كان المحل مخصصًا للغسيل الجاف بالبخار والكيّ الحار، وكانت الأسعار المثبتة على القطع التي اخترناها هي كلفة الغسل والكيّ!
ولهذا، ظنّ أننا أصحاب تلك الملابس، جئنا لتسلّمها ودفع قيمة الغسل والكي. وتطايرت من أفواهنا كلمات:
“سوري… فيري سوري…”
لكن هل تجدي سوري مع شخصٍ حوّله الغضب إلى زعيمٍ للشبّيحة؟
انهال علينا بشتائم تعتبر الشتائم اللبنانية مقارنةً بها «مدحًا»، مستخدمًا مفرداتٍ ذات أربعة أحرف – وهي أبشع الشتائم بالإنجليزية – وأدركنا أنه سيترجمها إلى لكمات، فهربنا ركضًا بعد أن بعثرنا معظم محتويات المحل!
وكما يفعل المجرمون المحترفون عندما تداهمهم الشرطة، ركضنا في اتجاهاتٍ مختلفة طلبًا للسلامة.
وإلى يومنا هذا، ما زلتُ أتساءل: كم من الوقت قضاه المسكين في إعادة ترتيب تلك الملابس حسب الأرقام المخصصة لأصحابها؟
بل هل كان ذلك ممكنًا أصلًا؟
تلك كانت أصعب معركةٍ في “صدام الحضارات”، ولا أظن أن صموئيل هنتنغتون خاض مثلها قط





