المقالات

البلدي يؤكل

تتداول مقولة البلدي يؤكل كله بين أوساط إخواننا المصريين بالذات، بحكم أن كل منتج بلدي مصري ألذ من المنتجات الأجنبية. وفعلاً هناك فرق، فتجد طعم الأوز أو الفراخ مثلاً والعصافير البلدي أشهى من غيرها، وربما يعود ذلك إلى أنهم يعتنون بتربيتها ويزغطونها حتى الثمالة، فتكون مكتفية فلا تأكل من خشاش البيوت أو الحقول. أو ربما العكس، فالطيور على أكّالها تقع، أينما تكون وكيفما تكون (ضع كم خط تحت كيفما تكون).

وهناك من الظرفاء من يقول إن سبب ذلك هو خفة ظل المصريين، فينعكس ذلك على الطيور، فتأكل وهي تضحك ومبسوطة ٢٤ قيراط، فتسمن ويطيب طعم لحمها للأكيلة. وتعج مطاعم القاهرة بمريديها والذين يطلبون تلك الأطباق ويشترطون عند طلبها: (بليز يا شيف، عاوزين اللحمة بلدي).

والبلدي بطبيعة الحال هو المحلي أو الشعبي. وعطفًا على كلمة الشعبي، فهل اللهجات الشعبية، والتي هي متعددة، ستكون مهضومة في التناول كما تلك اللحوم؟ لا شك أن اللهجات الشعبية هي السائدة، فلا يتكلم الناس بينهم باللغة العربية الفصحى رغم أهميتها وعلو كعبها. ولكن هناك من ينتقد الكتابات الشعبية، وقد يذهبون إلى أن كاتبها لا يجدر به ذلك، مع أن كل أحاديثنا وأهازيجنا في الملاعب وأغانينا بتلك اللهجة.

تصور كم أغنية باللهجة الشعبية، وكم هناك باللغة العربية الفصحى، البون شاسع. ولكن الميزان أكيد يميل للعربية الفصحى من حيث التقييم.

لكن لو أردنا أن نُفصح الأغاني الشعبية، فمثلاً أن نجعل أغنية فيروز: شفت البحر شو كبير، قد البحر بحبك، سنقول: “أرأيت كم هو البحر كبير؟ فإني على قدره سأحبك”. أو أغنية فوزي محسون من كده خلاك كده، من سبب هذا الخصام، ستكون: “من الذي جعلك هكذا وكان سببًا في هذه الخصومة؟”.

يعني أيهما ألذ: البلدي أم الآخر؟ كما أن كل التمثيليات، ما عدا النزر اليسير، أيضًا باللهجات الشعبية، وخاصة الفكاهية. يعني لو كانت بالعربية الفصحى، كان عنوان تمثيلية عادل إمام: شاهد ما شفش حاجة، سيكون: “الشاهد الذي لم ير شيئًا البتة”. وطاش ما طاش: “الطاش الذي لم يطش بعد”.

ولو دخلنا إلى ساحة الطرب، فهناك أغانٍ باللغة العربية الفصحى تأسر اللب من فخامة الكلمات، وروعة الألحان، وجميل الأداء، ولكن تظل محدودة ومعدودة. وكثير من الملحنين يجدون صعوبة في تلحينها، كما أن المطربين إلى حد كبير يفضلون الكلمة الشعبية السهلة التلحين، والتي كلمة منها تعلق في أذن المتلقي، مثل: عطني المحبة ولنا الله والعين بحر.

أيضًا، اللهجة الشعبوية، لولاها ما سمعنا روائع الشعر النبطي للكثير من الكتّاب، وفي مقدمتهم الأمير خالد الفيصل، وسعود بن عبد الله، وعبد الرحمن بن مساعد، وباللهجة الحجازية إبراهيم خفاجي، وثريا قابل، وصالح جلال، ولطفي زيني، وغيرهم. ولم ننتشِ مع مئات أغنيات الوطن التي حلقت بنا في سماء التعبير عن حب القيادة والوطن.

أما الكتابة الشعبوية، وخاصة الساخرة منها، قد يعتقد البعض أنها سهلة جدًا، ولو كانت كذلك لرأينا عدة كُتّاب ساخرين، سواء في المقالات أو في إطار الأفلام أو التمثيليات الكوميدية.

انتزاع البسمة من أجمل الأعمال، فالنكد أصبح أكثر من الهم على القلب. افتح أي قناة، وسترى ما يجرح فؤادك عندما ترى أفواه الأطفال الجياع تتلهف على لقمة لسد الرمق، وأعمال القتل الممنهج في فلسطين والسودان وغيرهم في بقاع الأرض، حتى بعضهم أصبح يتمنى الموت حتى لا يشهد موت أطفاله ويعيش حسرتهم، ولا يحصل له ذلك. وهؤلاء من ينطبق عليهم قول الشاعر: حتى على الموت لا أخلو من الحسد.

الإنسان مجبول على حب النكتة، والتي أصبحت مثل الخل الوفي، صعبة، في زمن تسهل فيه الأحزان، وتكاد الضحكة تكون شبه أثر بعد عين.

أين النكتة المصرية التي كنت لا تجالس أي مصري إلا وتخرج بنكتة طازجة؟ الآن إذا جلست مع أحدهم تطلبه آخر نكتة، يبحلق عينيه فيك باستنكار ويقول لك: “مالك يا راجل، أنت بتنكت معايا ولا إيه؟”

بالنسبة لي، أهوى النكتة الحاضرة التي ينتجها الموقف وسرعة البديهة. مثلاً، طه حسين يذهب إلى المقهى الذي يجتمع فيه جملة من رواد الأدب وأباطرة الصحافة، ويكون معه من يساعده للدلالة على الطريق، ومرة ذهب ومعه مرافق جديد، فعندما دخل المقهى، مازحه البعض: “من معكم النهار دا يا سيدنا؟”، فرد سريعًا: “دا واحد (ساحبنا)”.

بالنسبة لي، أكتب الفصيح والشعبوي طبعًا على قد الحال، ولكن أجد أن النكتة والقفشة الساخرة لا تحلو وتفرفش الجو إلا باللهجة الدارجة. أما القارئ، فلا شك أنه أمام منتجات مختلفة، ومن حقه يحب وينبذ ما يشاء. ولولا اختلاف الأهواء ما راجت البضائع.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى