في عصر تحكمه الشاشات الصغيرة وتتصدره “الترندات”، لم يعد الطفل أو الشاب يبحث عن قدوته في العلماء أو الأدباء أو أصحاب الإنجازات، بل بات يتجه ببصره – وأحيانًا والأدهى ببصيرته – إلى مشاهير المنصات الرقمية، ممن صعدوا إلى القمة بأقل مجهود وأضعف محتوى. فلا يخلو يوم من مقاطع تنتشر انتشار النار في الهشيم، تقدم نماذج لا تستند إلى أي قيمة علمية أو ثقافية او أخلاقية أو مجتمعية. ومع ذلك، يجد أصحابها وبكل أسف ملايين المتابعين، وتصريحاتهم تُتداول كأنها أقوال مأثورة. هذه الظاهرة المقلقة والمزعجة تكشف عن هشاشة المعايير، وسطحية التقييم، وخطورة ما يسمى بـ”النجومية الفارغة”. فالمؤثر الحقيقي ليس من يُضحك الجمهور، أو يُثير الجدل، أو يرفع المشاهدات، بل هو من يترك بصمة و أثراً حقيقياً في فكر ووجدان المتلقي. إن خطورة هذه النماذج تكمن في كونها أصبحت مرجعاً غير معلن للسلوك، والذوق، وحتى الطموح، لدى فئات عمرية حرجة في التكوين. هنا تبرز مسؤولية المؤسسات التربوية والإعلامية، بل والمجتمعية عموماً. فصناعة القدوة تبدأ من المدرسة، وتُصقل في البيت، وتُعزّز عبر الإعلام. وإذا ما غابت هذه الجهات عن المشهد، فإن “المؤثر الافتراضي” سيملأ الفراغ بمنطقه وسلوكه ومحتواه. أما الأسرة، فهي الحصن الأول في توجيه الأبناء نحو التمييز بين القدوة الحقيقية والصورة اللامعة الزائفة. عبر الحوار والتوجيه وبناء الوعي النقدي، يمكن للوالدين أن يساهما في تحصين الأبناء من الانجراف وراء الأضواء الخادعة. لا أحد ينكر أن منصات التواصل أداة قوية في عصرنا الراهن، ولكنها تبقى أداة حيادية، يرتبط تأثيرها بمن يستخدمها، وبما يُقدَّم من خلالها. من هنا، فإن دعم النماذج الواعية من الشباب والمبدعين الحقيقيين هو السبيل الأمثل لإحداث التوازن، وتقديم محتوى راقٍ قادر على المنافسة.
ختاما، اقول مؤكدا بان صناعة القدوة ليست أمراً هامشياً، بل هي ضرورة استراتيجية لأي أمة تريد أن تحافظ على قيمها وتبني مستقبلها. فحينما نغفل عن صناعة القدوة الحقيقية، فإننا نترك أبناءنا ضحية لنجوم من ورق، لا يقدمون لهم سوى المتعة العابرة والتأثير السلبي المستمر.

1
بالحقّ نطقت وتفوّهت، فقد أصبت كبد الحقيقة،