للأسف بعض الناس يعيشون أسرى لذكريات الأمس، يجلدون ذواتهم صباح مساء على أخطاء ماضية، أو فرص ضاعت، أو قرارات اتُّخذت في لحظة ضعف أو جهل او تسرع. يطاردهم شبح اللوم، ويفتك بهم التحسر على ما خلت من أيام، كأنهم يحاكمون أنفسهم على ماضٍ لا يمكن تغييره ولا يمكن إرجاعه. وهنا تكمن المأساة. فجلد الذات لا يُصلح الحاضر، ولوم النفس المفرط لا يصنع مستقبلًا. فالحياة بطبيعتها واقعية، لا تمنحنا دومًا ما نشتهي، ولا تسير حسب أمانينا. لذا، لا بد أن نُدرك أن التصالح مع الذات ليس ضعفًا، بل شجاعة. هو اعتراف بأننا بشر، نُخطئ ونصيب، نتقدم ونتراجع، ننتصر ونتعثر. فالتصالح مع الذات يعني أن تقبل نفسك كما أنت، دون أن تُقلل من قيمتها أو تُحمّلها ما لا تحتمل. يعني أن تُسامح نفسك على ما فات، وتمنحها فرصة جديدة للحياة، دون أن تُعلّقها على مشجب الإنجازات السابقة، أو تُقارنها بنسخة مثالية كانت ذات يوم. فالحياة ليست متحفًا لإنجازات الماضي، بل ورشة مفتوحة لاحتمالات الحاضر. فكم من أناس عاشوا في ظل نجاحاتهم القديمة حتى خفت نورهم، لأنهم لم يُواكبوا متغيرات الزمان، ولم يُعطوا للراهن حقه من الجهد والفكر والتجديد. فمن الخطأ أن نظل نُردد: “كنت في الماضي كذا” أو “لو عدت إلى الوراء لفعلت كذا”، وكأن الحاضر لا قيمة له. فلكل مرحلة ظروفها وإمكاناتها وتحدياتها، وما يناسب الأمس قد لا يُجدي اليوم. فالحكمة تقتضي أن نعيش اللحظة بوعي، وأن نُحسن التعامل مع إمكاناتنا الحالية لا أن نظل نندب أطلالًا لا تعود.
إن التصالح مع الذات يُعيد الاتزان النفسي، ويمنحنا طاقة جديدة للمضي قُدمًا. لا يعني الاستسلام، بل يعني الفهم العميق لواقعنا، والعمل بما نملك، والسعي دون قسوة على النفس، ودون أن نُجبر ذواتنا على ارتداء أثواب لم تعد تُناسبنا. في النهاية، اجعل الماضي عبرة، لا سجنًا. واجعل الحاضر ساحة للإنجاز، لا محطة للتندم. وتصالح مع ذاتك، فهي الرفيق الوحيد الذي لا يُمكنك تبديله.
• أستاذ الإعلام بجامعة الملك سعود