منذ اللحظة التي منحت فيها المملكة العربية السعودية أول امتياز للتنقيب عن النفط لشركة أمريكية عام 1933، بدأت ملامح علاقة استراتيجية غير مسبوقة بين الرياض وواشنطن. لم تكن مجرد اتفاقية تجارية، بل بداية لتحالف تاريخي تشكّل على أسس المصالح المتبادلة، وتطور مع العقود ليصبح أحد أعمدة الاستقرار الإقليمي والدولي. وقد ترسخت هذه العلاقة في 14 فبراير 1945، حين التقى الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود بالرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت على متن الطراد الأمريكي “يو إس إس كوينسي”، حيث ناقشا مستقبل المنطقة بعد الحرب العالمية الثانية، ووضعا معًا حجر الأساس لشراكة سياسية واقتصادية وأمنية ممتدة لعقود.
شهدت العلاقات الثنائية منذ ذلك الحين زيارات متعددة لرؤساء الولايات المتحدة إلى المملكة، بلغ عددها حتى اليوم 16 زيارة رسمية، كانت كل منها تحمل طابعًا مختلفًا، وتعكس ظروفًا دولية وسياسية متغيرة. ففي عام 1957، زار الرئيس دوايت أيزنهاور المملكة والتقى الملك سعود، في وقت كانت المنطقة تشهد تصاعدًا في التوتر بين الغرب والاتحاد السوفيتي. وفي عام 1974، قام الرئيس ريتشارد نيكسون بزيارة المملكة والتقى الملك فيصل في خضم أزمة النفط العالمية، حيث لعبت المملكة دورًا مهمًا في تهدئة الأسواق العالمية.
تبع ذلك زيارة الرئيس جيمي كارتر في يناير 1978، حين التقى الملك خالد لبحث جهود السلام في الشرق الأوسط بعد اتفاقية كامب ديفيد. وفي عام 1990، زار الرئيس جورج بوش الأب المملكة والتقى الملك فهد بعد الغزو العراقي للكويت، وهو اللقاء الذي مهّد لتحالف دولي بقيادة واشنطن لتحرير الكويت. وفي عام 1994، قام الرئيس بيل كلينتون بزيارة التقى خلالها الملك فهد، لتعزيز التعاون الدفاعي والأمني.
أما الرئيس جورج بوش الابن فزار المملكة مرتين في عام 2008 والتقى الملك عبدالله، وناقش ملفات النفط والإرهاب والتعاون الاستراتيجي. وتلاه الرئيس باراك أوباما الذي زار المملكة أربع مرات بين 2009 و2016، أبرزها عام 2014 لتقديم العزاء في وفاة الملك عبدالله، ثم عام 2016 لحضور قمة قادة مجلس التعاون الخليجي.
وجاءت زيارات الرئيس دونالد ترامب لتكون محورية، حيث اختار الرياض في مايو 2017 كمحطة أولى في أول جولة خارجية له، والتقى خلالها الملك سلمان وولي العهد الأمير محمد بن سلمان، وشارك في ثلاث قمم مفصلية: القمة السعودية الأمريكية، القمة الخليجية الأمريكية، والقمة العربية الإسلامية الأمريكية. وأسفرت الزيارة عن توقيع اتفاقيات استثمارية وعسكرية بقيمة تجاوزت 460 مليار دولار.
وفي 15 و16 يوليو 2022، قام الرئيس جو بايدن بزيارة المملكة، حيث التقى خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز، وولي العهد الأمير محمد بن سلمان في جدة، وشارك في قمة جدة للأمن والتنمية التي جمعت قادة دول مجلس التعاون ومصر والأردن والعراق. جاءت هذه الزيارة في وقت شهد العالم توترات في أسواق الطاقة بسبب الأزمة الأوكرانية، وقد ناقش خلالها بايدن ملفات التعاون الأمني، وأمن الطاقة، والملف الإيراني، رغم الانتقادات التي واجهها بسبب اللقاء مع ولي العهد، بعد مواقفه السابقة. إلا أن الزيارة أعادت تأكيد متانة العلاقات، وأكدت أهمية المملكة كحليف استراتيجي لا يمكن تجاهله.
ثم جاءت الزيارة التاريخية الثانية للرئيس ترامب إلى المملكة في 13 مايو 2025، ليعلن خلالها رسميًا رفع العقوبات الأمريكية عن سوريا استجابة لطلب ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، في خطوة تعكس التأثير السياسي المتنامي للمملكة، ودورها المحوري في دعم الاستقرار، وإنهاء معاناة الشعوب، وبناء جسور السلام في المنطقة.
ولا تنفصل السياسة السعودية عن بعدها الإقليمي والإنساني، فهي سياسة شمولية تهدف إلى تعزيز الأمن والاستقرار والتنمية في الداخل والخارج. فقد لعبت المملكة دورًا محوريًا في إنهاء النزاعات الإقليمية، ودعمت المسارات السياسية في اليمن والسودان ولبنان وسوريا، وأسهمت في عودة سوريا للجامعة العربية، وصولًا إلى لحظة رفع العقوبات، ما ساعد على تخفيف معاناة الشعب السوري وفتح آفاق جديدة لإعادة الإعمار.
وتتجلى ملامح هذه السياسات الحكيمة اليوم بقيادة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز، وسمو ولي عهده الأمير محمد بن سلمان، الذي أعاد رسم خارطة أولويات الدولة داخليًا وخارجيًا، برؤيةٍ حديثة جعلت المملكة لاعبًا رئيسيًا لا يمكن تجاوزه في ملفات الطاقة، والاقتصاد العالمي، والأمن الإقليمي، والسلام الدولي.
سياسات المملكة لم تقتصر على الجانب السياسي فحسب، بل امتدت لتقود تحولات اقتصادية وتنموية غير مسبوقة ضمن رؤية السعودية 2030. فقد أسهمت هذه الرؤية في خلق مئات الآلاف من فرص العمل للمواطنين والمقيمين من الجنسين، عبر تنمية القطاعات الواعدة مثل الطاقة المتجددة، السياحة، النقل، التعدين، الترفيه، والذكاء الاصطناعي. وبحسب بيانات وزارة الموارد البشرية، تم توظيف أكثر من 1.5 مليون مواطن ومواطنة منذ إطلاق الرؤية، في حين تجاوز عدد المستثمرين الأجانب المرخص لهم 11 ألف مستثمر.
ولم يقتصر أثر هذه النهضة الاقتصادية على الداخل السعودي فحسب، بل تجاوزت حدود المملكة لتشمل دولًا صديقة ومجاورة. فالسعودية تُعد من أكبر المستثمرين في دول مثل مصر، باكستان، والسودان، وتقدم مساعدات مالية وإنسانية سخية، وتشارك في تمويل مشاريع البنية التحتية والتنمية في عشرات الدول الإفريقية والآسيوية.
كما أن مساهمات المملكة في تطوير القطاعات الصناعية والطبية والهندسية والتعليمية والتكنولوجية باتت نموذجًا يُحتذى، مع صعودها كمركز إقليمي في الطاقة النظيفة، والتعليم النوعي، والسياحة والترفيه، واستضافة أبرز الأحداث الرياضية والثقافية على مستوى العالم.
السياسة السعودية ليست فقط من أجل السعوديين، بل هي سياسة تمتد بظلالها إلى شعوب أخرى، تسعى المملكة إلى تخفيف معاناتهم، ورفع صوتهم، وتوفير سبل التنمية لهم. وهذا النهج جعل من السعودية ركيزة للاستقرار، وصوتًا للعقل، وشريكًا مسؤولًا في إدارة أزمات العالم وتشكيل مستقبل أكثر أمانًا ورخاءً.
في ضوء كل ذلك، يتضح أن العلاقات السعودية الأمريكية لم تكن يومًا قائمة على المصالح الآنية أو المعادلات الصفرية، بل على أسس استراتيجية تضع الإنسان، والتنمية، والاستقرار في مقدمة الأولويات. وتؤكد المملكة، من خلال سياساتها وتوجهاتها، أن الخير لا يخصها وحدها، بل يشمل الجميع.. وأن الاقتصاد حين يُدار برؤية، يصبح الكل فيه رابحًا.