المقالات

الهجرة الصامتة للعقول: من الذي بقي؟

صديقي غادر.
ورحلته لم تكن استقالة مكتوبة، بل حكاية مطوية في ورقة علمية.
كانت مغلّفة بصمت أنيق، كتبتها يد أعرفها جيدًا، لصاحب عقل ظلّ لعقود بيني وبينه حوار لا ينقطع.
أحد أصدقائي المبدعين، من أولئك الذين لا يملؤون الكرسي فقط، بل يشعلونه نورًا.
هاجر من الجامعة إلى هيئة وطنية مرموقة، وكنت أظن أنني تفهّمت أسباب خروجه… حتى قرأت.

ورقة علمية، دراسة رصينة بعنوان “ترك العمل الأكاديمي في المجتمع السعودي”، للباحث الدكتور عبدالرحمن آل الشيخ مبارك.
قرأتها كمَن يقرأ مرثية لصديق حيّ.
لم تكن مرافعة انفعالية، بل تبرير مؤسس، صادق، دقيق، مدعوم بأرقام لا تحتمل التأويل.

كان الخروج من الجامعة بالنسبة له قرارًا ناضجًا، لا نزوة عابرة.
لا صراخ فيه، ولا شكاية.
فقط ورقة محكمة، حملت بين طياتها أوجاع جيل بأكمله.

تمعّنت فيها، لا لأحلّل أسباب الغياب، بل لأنني شعرت أن السؤال الحقيقي بات أكثر وجعًا:
إذا كان من غادر يملك ما يبرر، فما الذي يُبقي من بقي؟

في ضوء ذلك، تبدو هذه الهجرة الهادئة للعقول مؤشرًا يتطلب دراسة أعمق، لا من باب التبرم، بل من باب البناء. فهناك من غادر بحثًا عن بيئة تحتضن طموحه، لا هروبًا من وطنه. وهناك من بقي، لكنه بقي بأملٍ منقوص، أو بطاقةٍ تستهلكها الإجراءات أكثر مما تغذيها الإنجازات.

في الداخل، ما زال كثير من الأساتذة يمارسون رسالتهم بإخلاص، رغم ما يواجههم من تحديات، تبدأ من المسكن وتنتهي بالتقييم.
أستاذ جامعي يقود جيلًا من الأطباء أو المهندسين، لكنه يسكن في أطراف المدينة، ويُطالب بصناعة علماء في مركزها.
يُحاسب على تأخر دقيقة، لكنه لا يُذكر حين يقضي ساعاته بين طلابه ومراجعه.
يتنقل بين الأقساط البنكية والالتزامات المدرسية لأبنائه، بينما هو ذاته من يضع أسس الخطط الوطنية الكبرى.

وهنا تكمن المفارقة: فالأستاذ الجامعي ليس موظفًا فحسب، بل ركيزة معرفية. لا يُقاس حضوره بعدد المحاضرات فقط، بل بمقدار ما يرفده من رؤية في بناء إنسان ومؤسسة.

التحدي ليس في الرواتب وحدها، بل في خلق بيئة تجعل البقاء خيارًا وطنيًا، لا اضطرارًا شخصيًا.
بيئة تدعم البحث، وتفتح الأفق للمشاركة، وتربط الجامعات بمشاريع التنمية ربطًا عضويًا، لا تجميليًا.
بيئة تعترف بأن الجامعات ليست مؤسسات تعليمية فقط، بل معامل تفكير، ومصدر سياسات، ومحرّك معرفي.

وبدلاً من انشغال الأكاديمي بملء استمارات التقييم، أو مطاردة ترقيات كل أربع سنوات، يمكن التفكير بإعادة تعريف معايير الأثر، بحيث يُكافأ الأستاذ لا على عدد الصفحات، بل على جودة ما قدّمه في خدمة وطنه ومجتمعه.

أما ما يُخص التمكين المالي، فالعقود والمشاريع التي تبرمها الجامعات مع مختلف الجهات، ينبغي أن تكون جسرًا لتعزيز رسالة الأستاذ، لا قيدًا ماليًا عليه.
يُمنح أجره كاملاً، تكريمًا لجهده، لا باعتباره بندًا محاسبيًا يُخصم لصالح كيانات وسيطة.

في الدول التي ارتفعت فيها الجامعات إلى مصاف مراكز القرار، لم يتحقق ذلك بالخطط وحدها، بل بتمكين الأكاديمي كفاعل تنموي، لا كمجرد محاضر.

نحتاج أن نرى أستاذ الفيزياء ضمن فرق البحث في مشاريع الطاقة.
وأستاذ الاقتصاد ضمن فرق صناعة السياسات.
وأستاذ القانون على طاولة صياغة الأنظمة.
وأستاذ اللغة ضمن هيئات المحتوى والإعلام.
لأن العقول إن لم تُستثمر في التنمية، تهاجر من غير رجعة… أو تبقى بغير أثر.

الاحتفاء بالأستاذ الجامعي لا يكون في يوم المعلم فقط، بل في أن يُحترم صوته، ويُكافأ أثره، ويُرى دوره داخل القاعة وخارجها.

ففي شركات مثل Apple وSamsung وAramco، لم تنجح الفكرة فقط لأنها أُديرت جيدًا، بل لأنها احترمت الباحث، ومكّنت المفكر، واستثمرت في العقل.

وإن كانت تلك الشركات قد ازدهرت بفضل البحث والتطوير (R&D)، فإن جامعاتنا ذاتها هي أصل هذا المفهوم.
فهل نعاملها كما يجب؟
وهل نديرها كمصانع فكر، لا كمجرد وحدات تنظيمية؟

ما نحتاجه ليس مزيدًا من الامتيازات… بل مزيدًا من الفهم لطبيعة هذه المهنة العظيمة.

إن الأستاذ الجامعي هو الخط الأول في معركة بناء الوطن.
وكل غيابه لا يترك فراغًا شخصيًا فقط، بل اهتزازًا معرفيًا وطنيًا عميقًا.

وقبل أن نسأل دومًا: لماذا يغادرون؟
فلنطرح بصوت مسموع، بكل حرج، وبكل شجاعة:
الهجرة الصامتة للعقول… من الذي بقي؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى