ما الذي يجعل أكاديميين كُثر يتركون الجامعات التي أسسوها بفكرهم، وربّوا أجيالها بعقولهم، ويغادرون بصمت… دون صراخ، دون اعتذار، دون حتى أن يُقال السبب الحقيقي؟
صباحًا نُشر المقال الأول، ومساءً تحوّل هاتفي إلى لسان وطنٍ أكاديميّ يتكلم. وصلتني رسائل من جامعات عريقة وأخرى ناشئة، من مواطنين ومتعاقدين، من أسماء أعرفها وأخرى لم أعرفها إلا حين وجدت في كلماتهم امتدادًا لصوتي. لم تكن الردود تعليقات عابرة، بل نداءات متشابهة في الألم، مختلفة في التفاصيل، موحّدة في سؤالها: لماذا وصلنا إلى هنا؟ وما الذي يمنع الإصلاح؟
رسائل تتجاوز عددها، لتتكاثر في دلالتها. أحدهم قال: “أنا من يُدرّس التحليل المالي، ومع ذلك لا أستطيع ممارسة calculated risk في حياتي، لأن راتبي يتقلب، والبنك لا يعرف كيف يصنفه، والمدرسة تراسلني بـ: الأسرة الكريمة… نأمل منكم سرعة السداد.”
وأضاف آخر: “تأخرت المدرسة في تسليم تقارير ابني، لأنه تأخر والده—المعلم الجامعي—عن دفع القسط.”
لم يكن الألم في الموقف، بل في المفارقة. أن يُربّى العقل على يد من يُساء إلى استقراره.
لكن الأهم من كل تلك الرسائل… أن كثيرًا ممن غادروا لم يكتبوا السبب الحقيقي. جاءت استقالاتهم مغلفة بعبارات الامتنان، والثناء، والدعاء للمؤسسة، وكأن الفقد كان طوعًا ناعمًا. بين السطور لا تُذكر البدلات، ولا الغموض، ولا التراكم، بل فقط عبارة: “شكرًا على كل شيء.” ولعل هذا من أبلغ ما يُقال… لا لأنهم رضوا، بل لأنهم تعبوا من أن يُفسّر تعبهم. صمتُ المغادرين ليس رضى، بل احترامٌ أخير للمكان الذي أحبوه، لكن لم يمنحهم سببًا كافيًا للبقاء. فكل استقالة كُتبت بأدب، كانت على الأرجح اعتذارًا أن الحوار لم يُفتح في الوقت المناسب.
وما زادني يقينًا أن ما نعيشه اليوم لم يكن مفاجئًا… ورقة علمية نُشرت في عام 1419هـ، كتبها الدكتور معدي بن محمد القحطاني بعنوان: “تسرّب أعضاء هيئة التدريس من مؤسسات التعليم العالي: دراسة استطلاعية على جامعة الملك سعود”. يومها لم تكن الهجرة ظاهرة، بل صوتًا خافتًا يحذّر، وينبّه، ويقترح. نبّهت الورقة مبكرًا إلى أن ضعف التقدير المهني، وتقييد حرية العمل الأكاديمي، وتضارب المسؤوليات الإدارية، هي أسباب رئيسية لهروب العقول من مقاعدها. واليوم، بعد سبعة وعشرين عامًا، نرى التحذير وقد تجسّد، والورقة وقد أصبحت مرآة للواقع.
فالواقع الجامعي يزداد ضبابية. يُصرف بدل، ثم يُسحب دون سابق إنذار، ولا يُعلم الأستاذ إلا بعد أن يصله مبلغ ناقص، فيسأل ويُقال له: “استدركنا أنه لا يحق لك.” يُحمّل المسؤولية عن بدلات صُرفت له لسنوات، ثم تراجع عنها تفسير لاحق. وفي بعض الحالات، يُخصم بأثر رجعي، وكأن النظام يطالبه بسداد دين لم يعلم بوجوده. حينها لا يجد الأكاديمي من يلجأ إليه إلا ديوان المظالم، لا طمعًا في خصومة، بل بحثًا عن حقٍّ واضح، أو على الأقل… تفسير لا يتبدّل كل عام. وفي واحدة من القضايا، حكمت الدائرة المختصة ببطلان الخصم بأثر رجعي، لأن من صرف البدل فعل ذلك استنادًا إلى صلاحياته، فهل يعقل أن يُحاسَب المستفيد، لا من غيّر رأيه بعد الصرف؟
التفاوت في التفسير كارثة صامتة. جامعة ترى تخصصًا نادرًا، وأخرى لا ترى فيه ميزة. قسم يصرف بدل حاسب، فقط لأن الكلمة وردت في توصيف المقرر، بينما يُحرم منه من لا تفارق البرامج الحاسوبية شاشته، ولا تُكتب أوراقه إلا بلغة الخوارزميات، ولا يبني أفكاره إلا داخل معادلات لا تُقرأ إلا ببرمجيات. يتقاضى أحدهم بدلًا لأنه نسّق مادة بالحاسب، ويُحرم آخر لأن اسم تخصصه لم يُصَغ كما ينبغي، لا كما يعمل.
ثم يُطلب من الجميع الأداء نفسه، تحت سقف غير متساوٍ.
في كل هذا، يُعامل الأستاذ الجامعي كمنظومة يجب أن تُنجز كل شيء. يُطلب منه أن يُدير الجودة، أن يُحدّث الملفات، أن يُقيم زملاءه، أن يكتب توصيف مقرره، ويُدرّب، ويبتكر، ويقترح، وينشر، ويُشارك. فإن قصّر في جانب، سُجّل عليه. وإن أنجز، لم يُسجّل له، ما لم يُوثّق ويُقرّ ويُعتمد ويُختم.
ومع ذلك، هناك من يثبت أن الحل ممكن. في دار الحكمة، كانت التجربة مغايرة تمامًا. كل مادة لها منسق، وكل اختبار يُراجع في أهدافه، ومدته، ومفرداته، وتُطبع الأوراق وتُرسل إلى اللجنة قبل موعدها، ويُهيأ كل شيء لتُمارس العملية الأكاديمية كما يجب. الأستاذ هناك يُعلّم، لا يُجهّز بيئة التعليم وحده. يُبدع في مادته، لا في صياغة الجداول والمسوغات. تُصاغ الجودة كمنظومة، لا كعبء يُثقل الظهور.
نحن لا نطالب بالمثالية، بل بالوضوح. لا نطلب امتيازات، بل استقرارًا. لا نبحث عن ترف، بل عن نظام يضمن ألا يتغير دخل الأستاذ وفق تفسير، أو يُقصى من بدل لأن التوصيف لم يُكتب “كما يحبونه”. نريد سكنًا لا يُستجدى، وتعليمًا لأبناء من يُعلّم، وتأمينًا طبيًا لا يُذل، وتفريغًا أكاديميًا لا يتسلل من تحته كمين الواجبات الإدارية. نريد أن نرى أستاذ القانون على طاولة التشريع، وأستاذ الاقتصاد في رسم السياسات، وأستاذ التربية الخاصة في برامج الدمج والتمكين، وأساتذة الهندسة في مشاريع التحول، وعلماء الفيزياء والكيمياء والأحياء في مراكز الأبحاث، وخبراء الآثار في صناعة الهوية، والمختصين بالتعليم في تطوير المناهج، والعلوم البيئية في كل خطوة نحو الاستدامة. لا نريدهم مجرد محاضرين في جداول… بل شركاء في صناعة مستقبل وطن. لا نريدهم ضيوفًا على المشهد الوطني… بل صناعه.
وكل هذا ليس ترفًا تنظيريًا. الدولة تمضي في أعظم مشاريعها. الصناعة تتحول، التقنية تقود، الشهادات المهنية تنتشر، القبول الجامعي يتوسع، والابتعاث بات محدودًا. ومع كل هذا، لا تزال بعض التقارير الإدارية تفترض أن الأكاديميين متوفرون، وأن كادر الجامعات كافٍ. لكنها لا تُظهر أن المخزون البشري يوشك على النفاد، وأن من يغادرون لا يُعوّضون، وأن الجامعات تفقد أصولها المعرفية بصمت، وأن الخصخصة القادمة إن لم تُقابل بنظام رواتب واضح، وبدلات ثابتة، وهيكل داعم، ستكون مجرد ترجمة لواقع أكثر ضبابية.
الذي أشعل فتيل هذا المقال لم تكن استقالة، بل دراسة أكاديمية نُشرت قبل 27 عامًا، بعنوان: تسرب أعضاء هيئة التدريس من مؤسسات التعليم العالي. قُرئت يومها كنص علمي، لكنها تُقرأ اليوم كتحذير وطني. لم تكن قصة قديمة… بل مشكلة مؤجلة.
الهجرة الصامتة للعقول… ستبقى مستمرة ما لم نقرأ الإنذار القديم، ونصحح المسار قبل فوات الأوان.






