قادت السعودية حراكًا جيوسياسيًا مؤثرًا، يُعد الأضخم من نوعه في العالم، الأسبوع الماضي، بهدوء ورصانة فائقة، ونجحت باقتدار في إحداث مقاربات إقليمية سلمية؛ وتجهيز المشهد السياسي الجيوستراتيجي، وتهيئة البيئة الأرضية الخصبة في المنطقة للدخول في مشروع التنمية المستدامة والازدهار الاقتصادي.
كما نجحت السعودية في إعادة الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى المنطقة بعد فترة من الانكماش والعزلة التي شهدتها خلال ولاية الرئيس بايدن، لأربع سنواتٍ عجاف، ذاقت فيها المنطقة الأمرّين بسبب سياسات اليسار الديمقراطي المدمّرة.
وعززت واشنطن شراكتها مع الرياض، واختارتها كوجهة سياسية أولى لرئيسها، تأكيدًا للتقارب بين البلدين، وتعزيزًا للشراكة الاستراتيجية، واستئناف النقاشات في ملفات المنطقة المرتبطة بإيران، كالأوضاع في اليمن والعراق وسوريا. وقد أكدت السعودية للرئيس ترامب حرصها على تجنيب المنطقة أي تصعيد عسكري أو مغامرات مفاجئة، والسعي لتهدئة الأوضاع وتصفير جذري للمشكلات، وتعزيز البيئة الحوارية الإيجابية في المنطقة والإقليم.
زيارة ترامب حققت اختراقات إيجابية كبرى لترسيخ قواعد اشتباك سلمية جديدة، وتشكيل خارطة طريق استثمارية وازدهارية، بعيدة عن الفكر العسكري، والحروب بالوكالة أو بالنيابة، وإنهاء ثقافة ما يُعرف بـ”شرطي المنطقة”، خاصةً وأن أعداء الأمس أصبحوا شركاء اليوم، بفضل جهود السعودية في حلحلة قضايا الإقليم.
وقد حققت الرياض نجاحًا متعاظمًا في رفع العقوبات الأميركية عن سوريا، بطلب مباشر من سمو ولي العهد، الذي تحرك بهدوء ورصانة، لتحقيق مصالح المملكة الاستراتيجية العليا.
زيارة ترامب عكست تحولًا جذريًا في فكر صُنّاع القرار بالحزب الجمهوري، وانتقالًا من فكر النسخة الأولى من حكم ترامب، الذي كان يؤمن بعسكرة المنطقة، إلى الفكر الترامبي الجديد، المنشغل بتعزيز الجوانب الاقتصادية والاستثمارية، وسياسة المصالح المشتركة، والتوجه السلمي.
من جهتها، أعادت السعودية تموضعها بعد التحولات السياسية في سوريا ولبنان، وهدوء الأوضاع في العراق، والتهدئة في اليمن، وإعادة بوصلة علاقاتها مع دول كانت تُصنّف معادية، وأصبحت اليوم شريكة، بفضل تغير السياسات، وانخراط هذه الدول في علاقات سياسية مؤسسية.
ولا خلاف أن التقارب السعودي–الإيراني أرسل رسالة واضحة لواشنطن مفادها أن المنطقة بصدد إعادة تموضع جيوستراتيجي مغاير تمامًا لما كان عليه عام 2017. فقد خرج بشار الأسد من صندوق التصنيفات الطائفية، وأضحت المعادلات الطائفية السياسية من الماضي، ونصر الله الهالك قضى نحبه، وانتهت الحروب بالوكالة، واجتُثّت المحاور الطائفية من جذورها.
استفادت المملكة من أدواتها الاستراتيجية الاستثمارية والسياسية والاقتصادية، وممكناتها وتحالفاتها مع الشرق والغرب، وفق مصالحها العليا. كما نجحت في إدارة تبايناتها مع أي دولة بطريقتها الخاصة، ومن خلال حوار مباشر دون وسطاء، ما حول تلك التباينات إلى فرص إيجابية.
بمعنى آخر، أصبحت الرياض تُهندس مشهد الحل في اليمن، لا كطرف في الحرب كما في السابق، بل كراعٍ لتسوية سياسية مستقبلية، تشارك فيها كل المكونات اليمنية.
وفي سوريا، نجحت في تعزيز الأمن والسلم، وتهدئة الأوضاع في العراق، ودعم الدولة اللبنانية، بما يُسهم في تحقيق هدوء شامل في الإقليم، والتفرغ للتنمية والازدهار والسلام، بعيدًا عن الحروب.
ويؤكد مراقبون أن السعودية تعمل بهدوء على تقليص النقاط الخلافية بين الولايات المتحدة وإيران، لإخراج طهران من عزلتها في ظل ظروفها الاقتصادية الحرجة. وتسعى المملكة لضمان عدم حدوث أي استدارات مفاجئة في المنطقة، حيث بدأت بالفعل في نزع فتيل التوترات، وأطلقت دبلوماسيتها الاستباقية للحفاظ على السلم، بما يتماشى مع استراتيجيتها الأوسع، التي ترتكز على التوازن في العلاقات مع طهران وواشنطن وبكين وموسكو.
كما تعي السعودية وجود خلافات متعاظمة بين واشنطن وطهران، وتتطلب جهودًا مضاعفة لاستعادة التفاهم بين الطرفين.
ولا خلاف أن زيارة ترامب للرياض في نسختها الثانية عام 2025 جاءت مختلفة تمامًا عن نسخة 2017. لم تعد طهران تسيطر على أربع عواصم عربية، وأصبحت أكثر حرصًا على تهدئة الأطراف، والبحث عن أصدقاء إقليميين وفي الغرب وروسيا والشرق، لا سيما بعد أفول نفوذها في سوريا، ولبنان، والعراق، واليمن.
بمعنى أدق، انتهى المحور الإيراني الطائفي في المنطقة فعليًا ونظريًا، وانتقل الفكر الإيراني من العدائية إلى التشاركية، وانخرط في مسار الدولة المدنية، مما أدى إلى مصالحة ومصارحة، وتوزيع النفوذ في اليمن على أسس أمنية وسياسية، بمشاركة جميع المكونات، بعيدًا عن هيمنة الفصيل الواحد (الحوثي) كما كان سابقًا.
ومن المؤكد أن السعودية، بخبراتها التراكمية، وعلاقاتها، ونفوذها، ستلعب دور “ضابط الإيقاع” لهذه المرحلة التشاركية الهادئة. وعندما قررت مراكز القرار في الرياض إخراج سوريا من عزلتها السياسية والاقتصادية، حصلت على تأكيدات من الطرف الأميركي برفع العقوبات، وضمانات مباشرة من دمشق بالانخراط الكامل في بناء دولة المؤسسات، والتأسيس لمرحلة جديدة من التنافس الإيجابي عبر الحوار الاستراتيجي، وإنهاء حقبة الجماعات الجهادية في بلاد الشام.
لقد أبرزت مخرجات زيارة ترامب استقلالية متزايدة في القرار السعودي، وانفتاح الرياض على بدائل استراتيجية جديدة، خصوصًا أن رصانة الدبلوماسية السعودية عززت من دورها الإقليمي والدولي المتعاظم.
وشهدت العلاقات السعودية–الإيرانية تحولًا إيجابيًا ثابتًا في ظل انشغال أمريكا بأولوياتها الداخلية، وتراجع اهتمامها المباشر بالشرق الأوسط، ما دفع الرياض وطهران إلى خيارين: إما الاستمرار في الاستنزاف المتبادل عبر ساحات الوكالة، أو تبنّي نموذج تعايش استراتيجي يضمن استقرارًا نسبيًا. وقد اختارت طهران نهج الرياض في تعزيز السلم والأمن بدلًا من الحروب، خصوصًا أن المملكة لم تعد تنظر إلى إيران كخصم أيديولوجي، بل كفاعل إقليمي يمكن التفاهم معه لإدارة الملفات الحساسة، وعلى رأسها اليمن.
الديناميكيات الجيوسياسية التي تتعامل معها السعودية تهدف لإرساء استقرار الإقليم، وإعادة صياغة المشهد الجيوسياسي نحو ازدهار سلمي واقتصادي دائم.
أما إيران، فقد بدأت عمليًا باختبار قدرتها على التحول من لاعب يُحرّك الوكلاء إلى لاعب يصوغ الحلول مع الخصوم، ويعتمد الحوار، ويرغب في السلم. وهناك توجّه حقيقي للعمل نحو التنمية والازدهار، بدلًا من إشعال الفتن، وتغذية الصراعات.
وذلك بوصفها لاعبًا محوريًا في استقرار المنطقة، وبالنظر لثقلها الاقتصادي وتوجهاتها الإصلاحية.
وبعد أن هدأت عاصفة زيارة ترامب التاريخية، تؤكد السعودية مجددًا قوة تأثيرها العالمي، وأصبحت دولة فاعلة، وقرارها بيدها، وصانعة قرار في المنطقة والعالم.
لقد أصبحت الحليف والشريك النزيه المفضل للعالم، لما تملكه من علاقات متوازنة مع مختلف الأطراف، وتحركت بديناميكية في قضايا مثل الوساطة بين روسيا وأوكرانيا، ووقف إطلاق النار بين الهند وباكستان.
باختصار، ما بعد زيارة ترامب للسعودية.. النسخة (٢):
نقول: السعودية قوة التأثير.. وتأثير القوة.. تغيير قواعد الاشتباك من الحروب إلى الشراكة الإقليمية السلمية المستدامة