في زمن تتكاثر فيه معايير الإنجاز وتتصاعد فيه عاليا أصوات التميز، أصبح بعض الناس أسرى لفكرة الكمال، حيث تراهم يركضون بلهث خلف صورة مثالية يرسمونها في مخيلتهم لأنفسهم، معتقدين أن النجاح الحقيقي لا يكون إلا بالإتقان التام، والخلو من الخطأ، والظهور بصورة إيجابية لا تشوبها شائبة. فهؤلاء، في الحقيقة، رغم نواياهم الطيبة، يدفعون ثمناً باهظاً ومكلفا من راحتهم النفسية، ويفقدون شيئاً من بهجة الحياة، لأنهم ببساطة يحاولون باستماتة أن يكونوا “ما لا يمكن أن يكون”. فالنزعة نحو الكمال، أو ما يُعرف نفسيًا بـ”Perfectionism”، قد تبدو للوهلة الأولى دافعًا نحو التميز و الإبداع والإنجاز، لكنها حين تتجاوز حدودها الطبيعية، تتحول إلى سجن من القلق والتوتر والتقريع الذاتي. فبعض الناس إذا قصّروا في مهمة اين كانت طبيعتها، أو ارتكبوا خطأً بسيطًا، يعيشون في جلد ذات دائم، وكأنهم خذلوا أنفسهم والعالم من حولهم. فالقلق أيها الأحبة من عدم الوصول إلى المثالية يجعل الإنسان يخشى التجربة، ويهاب المبادرة، يتردد ويؤجل خطواته باستمرار حتى “تكتمل الصورة”، فلا يتحرك خطوة إلا وهو مثقل بالشكوك والظنون، ولا ينجز عملاً إلا وهو متوجس من النقص والتقصير. فيتحول للأسف سعيه للإتقان إلى عبء بدل أن يكون دافعاً. فالحقيقة التي يجب أن تُقال وأؤكد علبها بوضوح مرارا وتكرارا: لا يوجد في هذا الكون الفسيح بشرٌ كامل، ولا عمل بلا عيوب، ولا طريق يخلو من العثرات. فالكمال لله سبحانه وتعالى وحده. أما نحن، فبشرٌ نصيب ونخطئ، نتقدّم ونتراجع، ونتعلم من المحاولات لا من المثاليات. بل حتى العظماء الذين غيّروا مجرى التاريخ، لم يكونوا مثاليين، بل كانوا أصحاب تجارب، تعلّموا من الفشل، وتقدّموا رغم الأخطاء. فالإنسان المتوازن هو من يرضى بالممكن، ويجتهد لتحقيق الأفضل، دون أن يسجن نفسه في قفص “الكمال المستحيل”. وهو من يُدرك أن الإنجاز الحقيقي هو في الاستمرار والتطوير، لا في تقديم نسخة خالية من العيوب. فالسعادة لا تأتي من السعي المحموم إلى الصورة المثالية، بل من قبول الذات، بضعفها وقوتها، بخطئها وصوابها. ومن إدراك أن الخطأ جزء من الرحلة، لا عارٌ يجب الهروب منه. فحين يُخطئ الإنسان ويتعامل مع الخطأ بتواضع ونضج، فإنه ينمو ويتطور، بدلاً من أن يغرق في دوامة جلد الذات والقلق الوجودي.
ختاما ، اقول إذا كنت أبها القاريء العزيز ممن يضغطون على أنفسهم كثيرًا ليكونوا مثاليين في كل شيء، تذكّر أن الله خلقنا لنعيش ونُخطئ ونتعلّم، لا لنكون نسخًا متطابقة من الكمال. و لا بأس أن تُخطئ، و أن تُقصر أحيانًا، فكل ذلك جزء من كونك إنسانًا. فاجعل من الإتقان هدفًا ساميًا، لكن لا تجعله شرطًا للسعادة أو مبررًا لتقريع الذات. عش واقعك، واحتفِ بجهودك، وتعلّم من كل تجربة، فهذه هي المثالية الحقيقية: أن تسعى بإخلاص، وتتقبّل النقص، وتفرح بما أُنجز.

0