في زمانٍ كانت الرحلة فيه تعبًا للأقدام ومجاهدة للنفوس، خرج عبد الغني النابلسي من دمشق لا مجرد حاجٍ تقليدي يشق طريقه إلى مكة، بل سائرًا في دربٍ عرفاني، يكتب خطاه كما يكتب السالكون أشواقهم، ويؤدي مناسكه كما يكتب الشعراء رؤاهم. لم يكن الحجّ عنده انتقالًا من مكان إلى آخر، بل سفرًا من ظاهر الوجود إلى باطنه، ومن الطقس إلى الرمز، ومن البيت المبني إلى حضرة المعنى. وما دونه في رحلته الحجازية سنة 1105هـ
لم يكن سردًا لمراحل طريق،
بل شهادة وجدانية على ولادة جديدة، تبدأ من الشوق
وتنتهي بالفناء.
كان النابلسي يكتب وهو يسير، ويؤوِّل وهو يطوف، ويلتقط من كل مشهد أثرًا يضيء به داخله قبل ورقه.
قال عن الطواف:
(طفت بالكعبة، فطاف قلبي بحضرة المعنى)
فبكلمة واحدة نقل الشعيرة
من حركتها الدائرية إلى رمزها الأبدي؛ دوران الكائن حول مركزه الأزلي،
سعيًا إلى الله لا من خارج النفس، بل من أعماقها.
الكعبة، في عينه، ليست جدرانًا من حجر، بل تجلٍ مكاني لمعنى الوحدة،
وكل شوط فيها هو اختزال لعلاقة الحبيب بحبيبه،
والعابد بمعبوده،
والعالم بحقيقته.
وعند عرفات، لم يكن الوقوف مجرد امتثال لشعيرة، بل لحظة كشف وارتقاء، ولهذا كتب:
(من لم يعرف في هذا اليوم فلا معرفة له)
، مستبطنًا أن يوم عرفة هو وقوف الأرواح على أبواب النور، والتفات القلوب إلى علّة وجودها. إنه ليس يومًا فحسب، بل مقامُ كشف، فيه تنقشع الحجب، ويستدني القرب، وتُختبر النية.
ولم يغفل النابلسي عن المعاني الخفية في كل ركن من أركان الحج. فعند رمي الجمار، لم يكن يرجم حجارة بل
نوازع النفس كما كتب:
(رميت الجمار، فرميت بها نفسي )
مشيرًا إلى أن العدو الأكبر ليس الشيطان الخارجي، بل هو ذلك النزاع الداخلي الذي يحجب القلب عن صفائه.
فالحج عنده تطهير، وتهذيب، وتجريد، وتخلٍّ قبل أن يكون تلبّسًا باللباس الأبيض.
وكان النابلسي شاهدًا دقيقًا على الحياة الاجتماعية في الحجاز، وقد أفاض في وصفه لمكة المكرمة
وسكانها، فقال واصفًا أهلها:
(وأهل مكة يتعاملون بالمودة، ويتآلفون باللين والرحمة، وإذا دخل عليهم غريب أكرموه، وتنافسوا في خدمته )
وهو توصيف يبرز روح الكرم والتضامن التي كانت تسود في المدينة المقدسة.
كما أبدى إعجابه بنظام السقيا والطوافة، وكيف أن
(الناس يُسقون الماء بلا ثمن، ويُدلّون على المناسك بلا أجر)
في إشارة إلى ترسّخ القيم الجماعية والتكافلية في المجتمع المكي.
وفي معرض حديثه عن المسجد الحرام، قال:
(ترى الناس في حلقٍ كثيرة، كلٌ يقرأ على طريقته، ويتذاكرون العلم، ويُعلّم الكبير الصغير )
في مشهد يجمع بين العبادة والتعليم، ويجسّد الدور الثقافي والاجتماعي للحج بوصفه ملتقى المسلمين من أطراف الأرض. كما لاحظ النابلسي أثر الحج في إذابة الفوارق بين الطبقات، وكتب قائلاً:
(رأيتُ الأمير والفقير في صفٍّ واحد، لا يفرّق بينهم لباسٌ ولا رتبة)
مؤكّدًا على الوظيفة الاجتماعية للحج في تحقيق المساواة وإشاعة روح الإخاء.
وهكذا، فإن رحلة النابلسي ليست مجرد مسار روحي، بل سجل اجتماعي حيّ لحياة الحجاز في عصره، تكامل فيه الذوق العرفاني مع حسٍّ ميداني نبيل، رصد فيه أخلاق الناس، وأنماط حياتهم، وتفاصيل يومياتهم في الحرمين.
لقد حجّ النابلسي بقلبه قبل بدنه، وبقلمه قبل قدميه،
وترك لنا نصًا يضيء الداخل
كما يُنير الخارج، ويمدّ جسور الروح إلى زمانٍ كانت فيه مكة مهبطًا للنور ومسرى للقلوب.

0