المقالات

الحجة المكية والزورة المحمدية!!

تتمثل أهمية أدب الرحلات في دوره في التوثيق التاريخي والجغرافي للمناطق التي زارها الرحالة، كما يهدف إلى التعرف على مشاعر الأمم الأخرى واختياراتها.

ومن أجمل ما قرأت في هذا الاتجاه الشعري، قصيدة للشاعر “مجد الدين أبي عبد الله بن رشيد البغدادي الوَتَري”، الذي كان شاعرًا مجيدًا من شعراء بغداد، وفقيهًا شافعيًّا، وواعظًا مشهورًا، ويُقال له: صاحب القصائد الوترية في مدح خير البرية.

وُلد ابن رشيد البغدادي في بغداد عام 553هـ، وتُوفي سنة 662هـ. وقد أدّى فريضة الحج إلى بيت الله الحرام في عام 616هـ، ونظم قصيدة ذكرها الإمام تقي الدين الفاسي في كتابه (شفاء المرام بأخبار البلد الحرام)، بلغ عدد أبياتها 150 بيتًا، قافيتها الهاء المضمومة، وتُعرف باسم (القصيدة الذهبية في الحجة المكية والزورة المحمدية).

تتحدث القصيدة عن رحلته للحج من بدايتها إلى نهايتها، بزيارة المسجد النبوي الشريف، والسلام على المصطفى ﷺ وصاحبيه رضي الله عنهما. ومن أبياتها:

نَحجُ لِبيتٍ حَجهُ الرسلُ قبلنا
لنشهَد نفعاً في الكتابِ وعدناهُ

دعانَا اليه اللهُ عندَ بنائهِ
فقلنا له لبيكَ داعٍ أجبناهُ

فلا حَج الا أن يكونَ بارضهِ
وقوفٌ وهذا في الصحاحِ رويناهُ

اليه فؤادُ المرءِ يشعُر بالهنا
ولولاهُ ما كَان الحجازَ سلكناه

يطوفُ به الجانِي فيغفرُ ذنبهُ
ويسقـطُ عنـهُ إثمـهُ وخطـايـاهُ

وطفنا به سبعـاً رملنا ثلاثـةً
وأربعةً مشياً كما قد أمرناهُ

كذلك طـافَ الهاشميُ محمــــدُ
طوافَ قدومٍ مثلما طافَ طفناهُ

ويوم منى سرنا الى الجبلِ الذي
من البعدِ حيانَا كما قد حييناهُ

وبعد زوالِ الشمسِ كانَ وقوفُناَ
الى الليلِ نبكيِ والدعاءُ أطلناهُ

على عرفاتٍ قد وقفنا بموقـفٍ
به الذنبُ مغفورُ وفيهِ محوناه

أقبلَ الباريْ علينا بوجههِ
وقال أبشروا فالعفوُ فيكم نشرناه

فظل حجيجُ اللهِ لليلِ واقفاً
فقيلَ أنفروا فالكلُ منكم قبلناهُ

أفيضو وأنتم حامدونَ إلهَكُم
الى مشعرٍ جاء الكتابُ بذكراه

ونحو منىً ملنا بها كان عِيدُنا
ونِلنا بها ما القلبُ كانَ تمناهُ

وفيها رمينا للعقاب جمَارنـا
ولا جُرْمَ الا مع جمارٍ رميناه

وردت الى البيتِ الحَرَامِ وفُودُنا
رجعنا له كالطير حَن لمأواه

ومن بعد ما طفنا طَوافَ ودَاعِنا
رحلنا الى بلدِ الحبيبِ ومغناه

وصلنا اليه واتصلنا بقربه
فللهِ ما أحلىَ وصولاً وصلنــاه

وقمنا وسلمنَا عليهِ وانــــــه
ليسمعنا من غير شكٍ شكـكنـاه

وملنا لتسليمِ الإمامينِ بعده
فإنهما حقاً هناك ضجيعــــــاه

وقفنا تجاه المصطفى لوداعهِ
فلا دمعَ الا للوداعِ صببنـــــاه

فيا ربنا أرزقنا لمغناه عودة
فان زماناً لا نراه كرهنـــــــاه

إنها أصوات شعرية تفيض عذوبة ورقة، وتتفاعل معها النفس بكل أحاسيسها ووجدانها، لتعيش شرف المكان، وشرف الزمان، حيث الكعبة والمشاعر المقدسة، والأيام المعدودات.

إنه تصوير جميل يجمع بين الإمتاع والإقناع، لمناسك الحج وشعائره المعظمة، في أماكن تفيض بالقدسية والجلال

أ. د. بكري معتوق عساس

مدير جامعة أم القرى سابقًا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى