الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد…
ها هو العيد يحلّ، ومعه تتهلل الوجوه، وتُغسل القلوب بنور التلبية، وتُختم مناسك الحج بخشوع العيد وفرح النحر، وها هي مكة ترفع صوتها للعالم، أن موسم حج 1446هـ قد اكتمل بخير، وتم بفضل الله ثم بجهود رجال الوطن وقيادته.
في وادٍ غير ذي زرع، حيث تنحني الجبال بخشوع، وتلوح السماء بظلال من الرحمة، تقف مكة المكرمة… ثابتة كالعقيدة، خاشعة كالمحراب. ليست مدينةً في جغرافيا الأرض، بل وطنٌ للعقيدة، وملتقى الزمان بالمكان. على ترابها نزل جبريل، ومن حولها تطوف الأرواح، وعندها قال الخليل: “ربنا إني أسكنت من ذريتي بوادٍ غير ذي زرع عند بيتك المحرم…”
وفي هذا المكان، وقبل مئة عام تمامًا، دخلها رجل…
لم يكن دخوله كدخول الملوك، ولا موكبه كموكب الفاتحين، بل كانت خطاه مضمّخة بخشوع الحاج، وهو يدرك أنه لا يدخل أرضًا… بل يدخل حرامًا.
دخلها الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود – طيب الله ثراه – يوم الإثنين السابع عشر من ربيع الأول عام 1343هـ، وفي عينيه مشروع لم يُكتب بالحبر، بل بالنوايا: أن تكون مكة في ظل الدولة السعودية دار أمن وإيمان، وعدل وإحسان.
قالها منذ بدايات التوحيد:
“أنا خادم لبيت الله وحاجّ من حجاجه، وإني مسؤول عن تأمين سُبل الحج، وإصلاح طريق الحجاج، وخدمة ضيوف الرحمن ما حييت.”
لم تكن تلك الكلمات زهوًا سياسيًا، بل قسمًا لا يزال صداه يتردّد في كل قطرة زمزم، وكل حجر في عرفات، وكل يد تنظّف بلاط الحرم الشريف.
في مطلع القرن الرابع عشر الهجري، كان الحج أشبه برحلة موت: لا أمن، لا خدمات، ولا يقين بالوصول. الحجاج يُنهبون، ويهلكون، ويغيبون دون شواهد. كان الطريق إلى مكة محفوفًا بالهلاك، وكانت الخيام فقيرة، والطواف عشوائي، والرعاية شبه معدومة. وكان كل من بلغ مكة يُعد ناجيًا، وكل من عاد يُعد شهيدًا مؤجّلًا.
أما اليوم، وبعد مرور مئة عام على تلك اللحظة الفاصلة، فقد باتت مكة مدينة تنبض بالخدمة، ويُدار حجها بمنظومة تفوق الوصف. في موسم حج 1446هـ، استقبلت مكة 1,673,230 حاجًا وحاجة، منهم 1,506,576 قدموا من خارج المملكة، ينقلهم قطار المشاعر بسرعة وانسيابية، وتخدمهم شبكة ذكية تشمل أكثر من 250 ألف موظف ومتطوع، تُوزع عليهم ملايين عبوات زمزم، وتُقدَّم لهم خدمات صحية مجانية أجريت خلالها أكثر من ألفي عملية جراحية ناجحة، وكل ذلك دون أن يتأخر الطواف دقيقةً واحدة.
وما كان هذا التميز ليتحقق لولا فضل الله أولاً، ثم ثمرة تراكم جهود سنواتٍ مضيئة من خدمة الحرمين، بنتها الدولة السعودية مرحلةً بعد مرحلة، وموسمًا بعد موسم، عبر تجارب متراكمة، وخبرات متبادلة، وتعلّم مستمر.
فهذا النجاح المذهل في حج 1446هـ لم يأتِ من فراغ، بل هو نتاج لرؤية، واستثمار في الإنسان، وانضباط في التنظيم، بُني على أساسٍ متين من النجاحات السابقة.
لكن هذا الموسم كان – بحق – ذروة نضج التجربة، وعنوانًا لتكامل الأداء، وبصمة لا تُنسى في سجل خدمة الحجاج.
ولعل من أبرز مظاهر هذا التكامل ما قامت به وزارة الداخلية السعودية من جهود جبّارة لضبط المخالفين، ومنع دخول أي حاج بدون تصريح.
هذه المنظومة الأمنية المحكمة لم تكن مجرد إجراءات، بل كانت رؤية وقائية وتنظيمية عميقة، حفظت أرواح الحجاج، وضمنت سلامة المسارات، ورفعت مستوى الخدمات بشكل غير مسبوق.
ولأول مرة شعرنا – بهذا الوضوح – أن الهدوء، النظافة، سلاسة الحركة، انخفاض المشكلات، وزيادة جودة الخدمات كانت انعكاسًا مباشرًا لهذا الانضباط الميداني الراقي.
قال المؤسس ذات يوم:
“إن مكة وبيت الله الحرام أعظم أمانة في عنقي، وأعظم شرف أن أُعين في خدمته، وإنني ما جئت لأحكم، بل جئت لأخدم.”
وهذه الخدمة لم تكن كلمات، بل كانت خطة. أنشأ الملك عبدالعزيز أول إدارة للحج في 1344هـ، وتوالت بعده المؤسسات، وتحوّل الحج من عبء ديني على الفقراء إلى عبادة مُيسّرة تحت راية دولة. واليوم، لم تعد مكة مجرد مقصد، بل منظومة حضارية متكاملة، يقودها إيمان متجدد بأن التيسير من الدين، وأن النظام من الإيمان.
وفي كل موسم، وبين منى ومزدلفة، وبين عرفات والحرم، تروي مكة قصة القيادة التي تحوّلت إلى خدمة، والسلطة التي انحنت للعبادة. لم تعد “منى” خيامًا متهالكة، بل مدينة مصممة بمعايير هندسية وروحية. ولم تعد “مزدلفة” أرضًا موحشة، بل مساحة يتجمّع فيها العابرون وهم يستنشقون المعنى قبل أن يجمعوا الحصى. أما “عرفة”، فلا تزال هي الجواب الأخير لسؤال الإنسان: من أنا؟ وماذا أريد؟ وأين أقف من الله؟
وفي هذه الأيام المباركة، وبين تكبيرات العيد وأناشيد الأمل، تتردد في مكة أصداء قرن من الرعاية، من الوفاء، من السهر على راحة الحجاج… تُقرأ فيه وصية المؤسس كما لو أنها كُتبت بالأمس:
“أوصيك بالحرمين خيرًا، فإن من عظّم الحرمين عظّمه الله، ومن خدمهما رفع الله قدره في الأرض.”
واليوم، تحت راية خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز، وولي عهده الأمير محمد بن سلمان – حفظهما الله – تُكتب هذه الصفحة الجديدة من الوفاء، حيث ارتفعت مكة مع رؤية المملكة 2030، لا فقط في البنيان، بل في الإنسان، في جودة التجربة، في جمال التنظيم، في عمق المعنى.
رؤية ترى في الحاج ضيفًا يُكرَّم، لا عددًا يُحصى، وفي مكة قلبًا يخدم، لا مدينة تستقبل.
الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد…
تمت مناسك هذا الحج في أبهى صوره، ورفرفت راية “خدمة الحرمين” فوق رؤوس العالم، تخبرهم أن في مكة وطنًا، وفي الوطن قلبًا، وفي القلب وعدًا لا ينكسر:
أن تبقى مكة في ظل هذه القيادة…
مكة المكرمة… قرن من الطاعة بين مهابة القداسة وهيبة السيادة