تعالت في السنوات الأخيرة، بدول الخليج، أصوات قلقة تتساءل: ما الذي يحدث في أوطاننا؟
لماذا ازدحمت مدننا بالغرباء حتى بات المواطن غريبًا في بلاده؟ تتكرر العبارات وتتضخم النبرة:
(الأجانب خطر متصاعد)
(الهوية على المحك)
(السوق لم يعد لنا)
لكن، وقبل أن نرفع أصوات الاحتجاج، لنسأل أنفسنا بصدق:
من صنع هذا الواقع؟
من صاغ هذه المعادلة
حتى انفجرت في وجوهنا؟ الواقع أن ما نعيشه اليوم لم ينشأ من مؤامرة خارجية، بل من منظومة داخلية دقيقة، ظاهرها البساطة، وباطنها عميق الأثر.
بدأت الحكاية مع تدفق النفط، حين أصبح الدخل وفيرًا، فتحوّل العمل من ضرورة معيشية إلى وظيفة حكومية مريحة.
صار المواطن مديرًا، والوافد عاملًا. المواطن يُوقّع،
والوافد يُنتج. ومع الزمن، تكرّست ثقافة استهلاكية
لا ترى في اليد الوطنية خيارًا عمليًا، بل تستسهل الاستيراد، حتى في أبسط التفاصيل.
ثم جاءت موجة تمكين المرأة، وهو تحول طبيعي ضمن مسار التقدم، لكنه حين لم يُقترن بإصلاح جذري للمنظومة، فتح أبواب اعتماد جديدة. خرجت المرأة إلى سوق العمل، لكن المهام المنزلية لم تُعد هيكلتها. فكان البديل خارجيًا: مربيّات، خادمات، طاهيات، خياطات، ومراكز تجميل. وكل وظيفة غادرتها المرأة، خلّفت وراءها خمس وظائف خدمية تُدار بالأيدي المستوردة.
وفي خضم هذا التحول،
تراجع حضور الذكر الخليجي في السوق، لا لكسله،
بل لأن السوق لم يعد
يراه خيارًا طبيعيًا.
المكاتب اكتظّت، والمهن الحرفية نُفرت عنها الأجيال، والوظائف البسيطة سُلِّمت للوافدين. فجلس كثير من الشباب على الهامش،
في وطن تعجّ أسواقه بالفرص، لكنه لا يراهم ضمن معادلته.
هذا الواقع لا يخص الخليج وحده. في مدينة مثل
(لوس أنجلوس)
لم يُدق ناقوس الخطر لأن المهاجرين جاؤوا، بل لأنهم استُدعوا ثم تراكموا،
حتى باتوا كتلة ضاغطة تُشكّل قرارات السياسة المحلية.
نحن لم نُغزَ ديموغرافيًا،
بل صنعنا بأيدينا مختبرًا اجتماعيًا معقّدًا،
أفرز وحشًا من التبعية البنيوية. زرعنا بذور الاستيراد، سقيناها بالراحة المؤسسية، ثم أفزعنا ظلّها حين كبرت وتشعبت.
لكن الحل لا يكون بالصراخ، ولا بلوم الوافدين، ولا باتهام المرأة. بل بإعادة هندسة الجذور.
الحلول تبدأ من التعليم،
لا كمناهج فقط، بل كمنظومة تبني القيم الإنتاجية والانتماء للعمل. نحتاج إلى دمج مبكر للطلبة في أنشطة سوقية ومجتمعية تنزع عن العمل طابع العيب، وتزرع فيهم
قيمة الكدّ والعطاء.
ثم تأتي سياسات التوطين،
التي يجب أن تتحرر من الشكلية وتُبنى على تمكين حقيقي عبر التدريب، ودعم المشاريع الصغيرة، وتسهيل دخول المواطنين في المهن المهجورة بإعادة هيبتها ورفع جاذبيتها الاقتصادية.
نحتاج أيضًا إلى إصلاح عميق في سوق العمل، يجعل توظيف المواطن ميزة استراتيجية
لا عبئًا بيروقراطيًا. ولا بد من حملة إعلامية تربوية طويلة المدى تعيد الاعتبار لفكرة (العمل الشريف)
وتُبرز نماذج النجاح من الشباب العامل في مختلف القطاعات، وتكافئهم علنًا.
نحتاج إلى كسر ثقافة الاستيراد، وبناء اكتفاء محلي حقيقي. نحتاج إلى تعليم يُنتج لا يُلقّن، وتمكين يعيد بناء السوق حول المواطن لا من دونه. نحتاج إلى عودة الذكر الخليجي إلى قلب الدورة الإنتاجية، لا إلى أطرافها.
إن كنا نخشى الغد، فلنُصلح اليوم.
وإن كنا نخاف على الوطن، فلنعد نحن أولًا إليه