من الجوار… بدأت الحكاية، ومن الجوار تشكّلت معالم القيادة.
في السكن الجامعي، لم نكن نسكن بجانب أساتذة فقط، بل بجانب عقولٍ كانت تُخطط لما بعد اليوم، وتبني الأجيال من خلف الأبواب المفتوحة لا من وراء مكاتب مغلقة.
كان من بين الجيران وكلاء الجامعة للدراسات العليا والبحث العلمي، رجالٌ لم تُعرف قيمتهم فقط من ألقابهم، بل من أثرهم العابر للسكن إلى المنهج والحياة.
كان الدكتور محمد الحبشي إذا دخل المجلس، جلس العلم معه، وإذا سكت، تكلمت الهيبة. يختصر المعنى، ويحفظ للمكان كرامته.
وكان معالي الدكتور أسامة شبكشي (رحمه الله)، وافر الحكمة، قليل الضجيج، عميق التوجيه. لم يكن مجرد وكيل، بل شجرة ظلها امتد من الجامعة إلى وزارة الصحة، ومن الحارة إلى الوزارة دون أن يتخلى عن سمته الهادئ.
ثم البروفيسور مصطفى الإدريسي، وجه البشاشة وسند السكينة، يُنصت قبل أن يتكلم، ويتكلّم إذا كان للكلمة وقتها.
ثم جاء الدكتور محمد نور فطاني، الجامع بين الإمامة والوكالة، بين دفء البيت وصرامة القرار. يعرف أبناء الجيران بالاسم، ويزور الكبير إذا مرض، ويحضر نشاط نادي الأبناء كما يحضر اجتماع مجلس الجامعة.
وكان البروفيسور عدنان زاهد، وكيلاً لكلية الهندسة أثناء دراستي، منظم الملفات وصاحب البصمة الصامتة، لا يطلب التقدير لكنه يناله، لا يعلو صوته لكن احترامه يُسمع.
وأخيرًا الدكتور يوسف التركي، الذي كان يمشي كأنه يحمل فكر الجامعة بين خطاه، ولا يُشعرك بثقله، بل بتوازنه.
ثم جاء المعالي… وكلما قيل “المعالي” دون اسم، علمنا أنه معالي البروفيسور أسامة بن صادق طيب.
كان القائد الذي لم يكن بحاجة إلى أن يقول إنه المدير. يكفي أن ترى التنظيم، وتشعر بالعدل، وتلمس ثقافة “نحن” لتعرف أن خلفها رجلًا يُؤمن بأن القيادة بناءٌ للناس لا تسلّطٌ عليهم. وكان ينادي: “العزيزين”… وهي الكلمة التي زرعت الانتماء في قلوب منسوبي الجامعة، من أعضاء هيئة تدريس وموظفين وطلاب.
عزّز ثقافة التمكين، وأسس سبع وكالات، وجعل من كل وكيل رأس مؤسسة مستقلة، بصلاحيات كاملة، ومنظومة تنضج بالتجربة لا بالتبعية.
عين رجالًا أقوياء، ثم ساندهم بصمت… لا ليأخذ المجد، بل ليمنحهم الثقة.
قال أحدهم ذات مرة في موقف مؤثر:
“ما هكذا ربّانا المعالي…”
وكان يزور نادي الأبناء بنفسه، يجلس مع الصغار، يذكرهم بلقب “العزيزين”… الكلمة التي ترسّخ الانتماء أكثر من أي برنامج.
في عهده، وُلدت وكالة الفروع، ثم نهضت الفروع والجامعات الوليدة: طيبة، تبوك، جازان، الحدود الشمالية، جدة.
لم تكن قرارات إدارية فقط، بل كانت ترجمة لثقافة “اصنع رجالًا، يأتوك بالمؤسسات.”
ومن بين هؤلاء الوكلاء الكرام، كان معالي البروفيسور أحمد بن حامد نقادي، الرجل الذي فهم المعالي دون أن يُشرح له.
أسّس وكالة الأعمال والإبداع المعرفي، وأطلق شركة وادي جدة، وربط الجامعة بالسوق لا للبيع، بل للإبداع. ثم حمل رؤيته إلى جامعة بيشة ليكون أول مديريها المؤسسين.
لم يكن صوته عاليًا، لكن أثره كان واضحًا. لم يطلب أن يُذكر، لكنه بقي حاضرًا في كل إنجاز ذكيّ، وكل مشروع قابل للنمو.
ثم جاءت رحلتي الشخصية… لا كزميل، بل كطالب يجلس في المدرج.
كان معالي البروفيسور عبدالله بافيل أول من واجهنا بصدق، حين قال لنا في أول محاضرة عام ٢٠٠٢:
“من لا يملك جهازًا حاسوبيًا، فهو في القسم الخطأ… ولن أقبل واجبًا مكتوبًا بخط اليد.”
كانت جملته بابًا إلى المستقبل. ثم قال عبارته التي علّمتني أن القائد لا يُولد كاملًا:
“القائد لا ينتظر المدى، بل يصنعه. لا يترقب الضوء، بل يُشعله.”
عاصرته رئيساً للقسم، وعميداً للكلية، ثم وكيلاً للدراسات والبحث العلمي، ثم وكيلاً للمشاريع، ثم معالي مديرًا لجامعة أم القرى.
وكان البروفيسور إبراهيم الضرّاب، مدرسة في الإرادة، على كرسيه المتحرك، لكنه يحرك فيك العقل والإصرار.
ثم معالي البروفيسور هاني أبو راس، الذي كان إذا سكت، نطق الوقار، وإذا تكلم، طبع الهيبة.
قال لنا ذات مرة:
“كلما تعلّمت، اكتشفت أنك في بداية الطريق.”
ثم البروفيسور إبراهيم جمعة، الذي جعل من العوامل البشرية مركز الهندسة. كان يرى في الإنسان روح المشروع، لا ملحقًا به.
وقبل بافيل، كان عميد الكلية معالي البروفيسور وليد أبو الفرج، صاحب البصمة الهندسية الدقيقة، والرؤية الإدارية المتزنة، الذي سار بين الممرات كما يسير بين المعادلات، بثقة وسكون.
ثم جاء بعد بافيل، الدكتور عبدالرحيم كنسارة، الذي تولى وكالة الكلية، ثم عمادتها، رجلٌ جمع بين دماثة الأخلاق ودقة العمل، لا يُحب الأضواء، لكنه حاضر في كل إنجاز منضبط.
ومن بين من غرسوا البذور الأولى للتطوير المؤسسي في الجامعة، كان الدكتور عباس طاشكندي، أحد المؤسسين الأوائل للبرامج المدفوعة.
رجلٌ كان يرى في التعليم رسالة لا سوقًا، وفي الطالب أمانة لا رقماً.
كان دائم التحذير من الانزلاق نحو المنفعة التجارية، ويقول بصراحته المعهودة:
“أخشى أن تصبح هذه البرامج وسيلة للربح، وتفقد رسالتها الجوهرية.”
كانت كلمته ناقوس تنبيه، وأثره باقٍ في كل برنامج وُضع له هدف، لا تسعيرة.
وفي المساء، كانت السماء فصلًا آخر.
كان الدكتور ياسين المليكي، المشرف على كرسي الملك عبدالله لأبحاث القمر، وعقل مرصد مكة، يصحبنا إلى القبة، يشرح لنا الفرق بين الضوء والمصدر، ويقول:
“النجم يضيء من ذاته… أما الكوكب فيعكس نورًا لا يملكه.”
وكان الدرس أبعد من الفلك… كان درسًا في القيادة.
ثم جاء المسرح، والنادي، والملعب، في نادي أبناء وبنات منسوبي الجامعة؛ بقيادة الدكتور محمد الأحمدي، ورفقة الدكتور عبدالقادر تنكل، كان النادي تجربة تعليمية موازية للمدرسة.
كنا نكتب، نمثّل، نحفظ، نسافر، ننافس، نحضر، ونُكرّم.
وكان المعالي أسامة حاضرًا… يسأل، يحضر الختام، يصفق.
وكان نادي الموهوبين بقيادة الدكتور إبراهيم علوي، الذي اعتنى بالنبوغ في صمت، ورعى الفكرة قبل أن تنمو، واحتضن الإبداع كما يُحتضن النبت في مهد الضوء.
لم يكن النشاط ترفًا… بل منهجًا لتربية روح الانتماء.
لقد بدأ السكن بـ ٩٠ فيلا، ثم أصبح ٣٠٠ شقة، واليوم ٨٠٠ فيلا ومرافق ترفيهية…
لكن العدد لم يكن ما غيّرنا… بل الجار، والمجلس، والساحة، والمسجد، والمسرح، والباب المفتوح.
لقد صنع السكن روح “نحن” قبل أن تُكتب.
ثقافة الحوار، لا القطيعة.
ثقافة التفويض، لا التسلّط.
والجامعات التي نراها اليوم، لم تولد من المكاتب، بل من ممرات السكن.
اللهم احفظ القامات التي ربت، وأسّست، وغرست، وارحم كل من رحلوا، واجزهم عن الجامعة كل خير…
واعتذارًا لكل من لم يرد اسمه، فإن ما بين السطور كثير، وكل من سكن وعمل ودرس في هذه الجامعة كان لبنة، وكل لبنة كانت قامة.
وهكذا كانت الجامعة…
بيتًا حقيقيًا، وساكنوها قممٌ تمشي على الأرض.






