إيوان مكةالمقالات

قراءة في قصيدة (من بقايا الحلم) للشاعرة فاطمة الشهري

مرآة الروح المعاصرة: كيف تعكس القصيدة العمودية أعمق إشكالياتنا؟

قليلة هي القصائد التي تستفز المتلقي بجمعها بين عمق الفكرة وفتنة اللغة. وأحسب أن قصيدة (بقايا الحلم) للشاعرة فاطمة الشهري (شعاع الثريا)؛ التي غردت بها قبل أيام على حسابها في منصة (إكس)، واحدة من تلك النوادر، ناهيك عن نفي القصيدة لتهمة كون القصيدة العمودية لم تعد تستوعب قضايا الإنسان الوجودية، ومعاناته المعاصرة.
وهذا ما سأتناوله في السطور التالية، ولنورد القصيدة ابتداءً:
***
“‏لنا من بقايا الحلم يومٌ وندركُ
بأنّـا على رعب النهايات نوشك ُ
مشينا فرادى يثقل الخوف خطونا
وكل بما يخفي من الوجد منهكُ
نواري بقايا الحب خلف ملامح ٍ
لفرط الذي تشكوه لا تتحرك ُ
ونورد حوض الأمنيات قلوبنا
ولكن َّ سم الوهم في الوِردِ يهلك
نفضنا رداء العمر من كل عابرٍ
يمرُّ ويهدينا الذي ليس يملك ُ
ومن كثرة الخيبات بتنا نعيدها
على مسمع الأيام والروح تضحك ُ
هنا حيث هذي البيد لا شيء غيرها
لنا ملجأٌ نأوي إليه ومنسك ُ
نحط رحال البؤس فيه ونهتدي
لأي جهات الغائبين سنسلك ُ
ستكتبنا الصحراء يوما قصيدةً
لتحقن نبضا في ثرى العشقِ يُسفكُ”
***
تعدُّ القصيدة مشهدا شعريًّا تتلاطم فيه باقتدار أمواج الحداثة وتتعدد أشكال التعبير، كصوتٍ قويٍ ومُدافِعٍ عن القصيدة العمودية.
تفيض أبيات القصيدة عمقًا وتأملًا، لا تُقدم نفسها كعملٍ شعري فحسب، بل كبرهانٍ ساطع على أن الشكل التقليدي للقصيدة ما زال وعاءً خصباً لاحتضان المعاني الفلسفية الأكثر تعقيدًا وإشكاليات الإنسان المعاصر الأكثر حساسية. إنها ردٌ بليغٌ على من يرى أن القصيدة العمودية قد أصبحت قاصرةً عن مواكبة روح العصر، ومدافعة قوية عن قدرتها على النبض بالحياة والفكر.
تشريح الروح المعاصرة: من النهايات إلى الفداء الفني
تفتتح القصيدة بنبرة وجودية تُلامس الروح في الصميم: “لنا من بقايا الحلم يومٌ وندركُ / بأنّـا على رعب النهايات نوشكُ”. هذا “اليوم” ليس يومًا كاملاً، بل هو “بقايا حلم”، إشارة إلى تضاؤل الأمل وتلاشي الأحلام الكبرى، وإدراك قاسٍ بأن النهاية حتمية. إنه وعيٌ يُشبه المفاهيم الفلسفية للفناء والحتمية، حيث يواجه الإنسان مصيره المحتوم. تتوالى الأبيات لتكشف عن حالة فردية وجماعية من العزلة والوهن: “مشينا فرادى يثقل الخوف خطونا / وكل ٌبما يخفي من الوجد منهكُ”. هنا، “الفرادى” ليست عزلة جسدية فحسب، بل هي عزلة روحية وفلسفية، فكل فردٍ يحمل أعباءه وآلامه الخاصة، مثقلاً بالخوف ومرهقًا بالوجد، في صورة تعكس الوحدة الداخلية للإنسان المعاصر في زحام الحياة.
تغوص الشاعرة أعمق في تشريح الروح البشرية حين تصف القصيدة تخدير المشاعر الناجم عن فرط الألم: “نواري بقايا الحب خلف ملامح ٍ/ لفرط الذي تشكوه لا تتحركُ”. هذا “الحب” بات “بقايا”، ومحاولة الاحتفاظ به تتلاشى أمام ملامح أثقلها الألم حتى فقدت القدرة على التعبير.
تستمر خيبات الأمل في العلاقات والأمنيات، حيث تبدو محاولاتنا مستمرة لكنها مُدانة بالفشل: “ونورد حوض الأمنيات قلوبنا / ولكنَّ سم الوهم في الوِردِ يهلك”. هنا، “حوض الأمنيات” هو مصدر رجاء، لكنه مسموم، و”سم الوهم” هو ما يقتل هذه الأمنيات، ويترك القلب محطمًا. إنه يدفعنا للتساؤل: هل تكمن آفتنا في الأمنيات ذاتها، أم في وهم تحققها المطلق؟ وتتجلى مرارة التجربة مع الآخرين، حيث تبدو العلاقات سطحية ومُخيبة: “نفضنا رداء العمر من كل عابرٍ / يمرُّ ويهدينا الذي ليس يملكُ”، تعبيراً عن التخلص من العلاقات الزائفة التي تمنح وعوداً فارغة أو تُشارك ما لا تملك، ربما لا يملك العابر نفسه سوى خيباته ليزرعها في دروب الآخرين.
يبلغ الانكسار ذروته في مفارقة عجيبة، لكنها تحمل في طياتها نوعاً من التجاوز الفلسفي: “ومن كثرة الخيبات بتنا نعيدها / على مسمع الأيام والروح تضحكُ”. هذا ليس ضحكًا حقيقيًا؛ بل هو ضحك السخرية المريرة، ضحك الروح التي تجاوزت حدود المعاناة لدرجة أنها لم تعد تتأثر، أو أنها وجدت في هذا التكرار الساخر نوعًا من التحرر. إنها نقطة تحول فلسفية؛ فبدلاً من الانهيار، يصبح الألم مادة للسخرية، وكأن الروح قد تجاوزت حدود المعاناة، أو وجدت في هذا التكرار الساخر نوعًا من التجاوز الوجودي، تذكرنا بضحك الفلاسفة الوجوديين أمام عبثية الحياة، حيث يصبح السخرية من الألم نوعًا من الانتصار عليه.
ألم يقل أحدهم ذات يوم في سياق مقارب:
“ولا تحسبن رقصي بينكم طربا/ فالطير يرقص مذبوحا من الألم”
ثم تنتقل القصيدة إلى فضاء جديد، فضاء الصحراء، لتصبح ملجأً ومنسكاً: “هنا حيث هذي البيد لا شيء غيرها / لنا ملجأٌ نأوي إليه ومنسكُ”. الصحراء هنا ليست مجرد مكان، بل هي رمز للتجرد والتطهر، مكان للعزلة الروحية حيث يمكن للإنسان أن يجد ذاته بعيداً عن زيف العالم وصخبه. هي ليست هروبًا، بل هي مواجهة للذات في أقصى صورها تجردًا. في هذا “المنسك”، يبدأ البحث عن الغائبين، سواء كانوا أحبة فقدوا، ذكريات ضاعت، أو أجزاء من الذات تاهت: “نحط رحال البؤس فيه ونهتدي / لأي جهات الغائبين سنسلكُ”. إنها محاولة لإعادة لم الشتات، أو على الأقل، لفهم أي الدروب يجب أن تسلكها الروح التائهة في هذه البيداء الممتدة، التي أصبحت خيمتها الأخيرة وملاذها.
وظفت الشاعرة واستثمرت بذكاء ثيمة (الصحراء) بكل ما تحمله من صفاء ونقاء وأيضا من متاهة وخطورة. ألم يطلق العرب على الصحراء (المفازة)، والمفازة قد تشير إلى السلامة والنجاة أو الموت والهلاك .
وتختتم القصيدة ببيت يحمل في طياته وعداً شعرياً قاسياً، لكنه فدائي بامتياز: “ستكتبنا الصحراء يوما قصيدةً / لتحقن نبضا في ثرى العشقِ يُسفكُ”. هنا تتحول الصحراء من ملجأ إلى كاتب، ومن فضاء إلى فاعل. الألم والمعاناة اللذان مر بهما الإنسان لن يضيعا هباءً، بل سيتحولان إلى فن، إلى نبض حي.
القصيدة هنا ليست مجرد نص؛ إنها فعل إحيائي، تحويل الشقاء إلى عمل فني خالد. إنها شهادة على أن التجربة الإنسانية، بكل مرارتها، يمكن أن تتحول إلى مصدر للجمال والإلهام، وأن الفن هو أحد أقوى وسائل تحويل الخسارة إلى انتصار روحي وبعث للحياة من رحم المعاناة. هذا البيت هو جوهر الفداء الفني، حيث يصبح المبدع ذاته مادة للخلق، ويتحول الفناء إلى بقاء عبر الكلمة.
________________________________________
القصيدة العمودية: إبداع لا يحده قالب
إن هذه القصيدة دليل ساطع على أن القالب الشعري، مهما كان تقليدياً، يصبح أداة طيعة في يد المبدع الأصيل.
إنَّ الوزن والقافية اللذان اعتمدتهما القصيدة، لا يمثلان قيداً بل هما أشبه بنبض القلب المتكرر، أو إيقاع الزمن الذي لا يتوقف، مما يخلق تردداً داخلياً ينسجم تماماً مع حالة الإدراك الوجودي والمواجهة مع النهايات (“نوشكُ”، “منهكُ”، “تتحركُ”، “يهلكُ”، “يملكُ”، “تضحكُ”، “منسكُ”، “سنسلكُ”، “يُسفكُ”). هذا الإيقاع المنتظم ليس مجرد زخرفة؛ بل هو جزء من المعنى، يعكس ثقل الخطوات وتتابع الخيبات، ثم الهدوء النسبي في الصحراء. القافية الموحدة، بدل أن تكون رتابة، تخلق إحساساً بالاستمرارية والدورة القدرية، وتُرسخ المعاني العميقة في ذهن المتلقي.
القصيدة العمودية، بضبطها وشكلها المحدد، تسمح للشاعر بصب هذه الاضطرابات الداخلية في قالب فني منظم، مما يمنحها وضوحًا وتأثيرًا. إنها تُقدم كثافة في المعنى ضمن حدود البيت الشعري، مما يدفع الشاعر إلى صياغة الفكرة بأقصى درجات الإيجاز والدقة، فتظهر كحِكمٍ مكثفة تدعو للتأمل. التعبير عن “الفرادى يثقل الخوف خطونا” أو “نواري بقايا الحب خلف ملامح ٍ لفرط الذي تشكوه لا تتحركُ” يُثبت أن الوزن والقافية لا يحدان من حرية التعبير، بل قد يمنحانها قوة إضافية من خلال الانضباط. هذه الأبيات تُبرهن أن الأصالة لا تكمن بالضرورة في كسر القواعد، بل في إتقانها وتجاوزها من الداخل.
إنها تذكرنا بأن العبقرية الشعرية تكمن في قدرة الشاعر على نفخ الروح في أي قالب يختاره، وجعله ينبض بالحياة والفكر. في عالمٍ يتسم بالفوضى والانفلات، قد يكون اللجوء إلى الشكل المنضبط في القصيدة العمودية بمثابة مقاومة جمالية، ومحاولة لإعادة التنظيم للمعنى والفكر، أو حتى لتقديم رؤية منظمة للعالم.
أخيرًا … إنَّ القصيدة العمودية، بما لها من تاريخ عريق في التعبير عن الجوهر الإنساني، تُثبت أنها ما زالت قادرة على التواصل مع هذا الجوهر الخالد في الإنسان المعاصر، وتقديم رؤى فلسفية لا تتقادم.
” بقايا الحلم” ليست مجرد قصيدة؛ إنها شهادة حية على أن القصيدة العمودية لم تمت، وأنها ما زالت قادرة على أن تكون صوتاً قوياً ومعبراً عن أعمق تجليات الوعي الإنساني المعاصر.
هنيئا للشاعرة بهذا النص الاستثنائي من وجهة نظري، وهنيئا لنا بهذا البهاء.
______________________

خلف سرحان القرشي

مؤلف ومترجم ومدرب في الكاتبة الإبداعية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى