المقالات

الطائف… عطرُ المجد الذي لا يذبل

لطائف الطائف (4-5)

حين تتنفس الأرض ذاكرة، وتفوح الحجارة عبقًا، وتتحول المدن إلى قصائد تمشي على التراب، فإنك في الطائف… المدينة التي لا تُقرأ، بل تُرتّل. لا تُزار، بل تُعاش. الطائف ليست بداية جغرافية، بل مطلع لحكايةٍ لا تنتهي. هي الوجه الذي يقابلك بالدهشة، ويصافحك بالتاريخ، ويهمس لك أن المجد إذا سكن مدينةً، فلن يبرحها.
في الطائف، لا تبدأ الحكاية من شارعٍ أو حي، بل من نسمةٍ تحمل عبق التاريخ، ومن ظلّ شجرةٍ يهمس بقصيدةٍ منسية. هنا، لا تُقرأ المدينة كبقية المدن، بل تُتذوّق كما يتذوّق الشاعر بيته الأول. الطائف ليست موقعًا على الخريطة فحسب، بل موقع في الذاكرة، وفي الذائقة، وفي القصيدة العربية حين كانت تُنشد في مواسم العز والمفاخر. هي مدينةٌ تتقدّم بخُطى الوردة، وتتحدث بلغة الجبل، وتكتب فصولها بالحكمة والحنين.
على سفوحها سارت قوافل الأنبياء، وبين وديانها ردّدت القبائل أشعارها. هنا، وقف النبي محمد ﷺ يدعو، ويصبر، ويزرع في الأرض إيمانًا نبتَ وامتدّ. وهنا تعاقبت حضارات، وتمازجت لهجات، وتقاطعت طرق التجارة والمعرفة، حتى أصبحت الطائف حاضرة لا تغيب عن سجلّ الذاكرة الإسلامية والعربية. وسُقيت من عين التاريخ حتى ارتوت بالحكمة والبطولة.
وفي قلبها التاريخي، ينبض سوق عكاظ، ذلك المهرجان الخالد، حيث لم تكن تُباع السلع، بل كانت تُوزن الكلمات وتُقدّر البلاغة، وتُقاس الأمم بقوة خطابها وصفاء بيانها. هو السوق الذي وقف فيه النابغة وأساطين الشعراء، وتحاور فيه الفكر والسيف، وارتفعت فيه الكلمة حتى جاورت النجم. واليوم، تعود الطائف لتُحيي عودة عكاظ، لا بوصفه فعالية فنية، بل كمنبر للهوية، وساحة للمثاقفة، ومجال لصياغة وعيٍ جديد بجمال الانتماء وبهاء الكلمة.
لكن الطائف لا تقف عند حدود التاريخ، بل تسير نحو المستقبل بثباتٍ لا يعرف التردد. بعينٍ ترى الجذور، وقلبٍ يعانق الرؤية، تقود المدينة نهضتها برعاية صاحب السمو الملكي الأمير سعود بن نهار بن سعود آل سعود، الذي لم يكن محافظًا في منصب، بل رائدًا لفكرة، وصوتًا لمدينةٍ تعرف قيمتها. في عهده، شهدت الطائف تحولات نوعية، لا في العمران فقط، بل في الوعي والتخطيط والانتماء. من إنشاء المطار الدولي الجديد إلى تطوير واجهات المدينة ومرافقها، ومن إطلاق المنتديات الاستثمارية الكبرى إلى ترسيخ الهوية السياحية والثقافية، أصبحت الطائف واحدة من أنصع نماذج التنمية المتزنة في المملكة، بل في العالم العربي بأسره.
بجهود مسؤولي المدينة وقادتها التنفيذيين، تحوّلت الطائف إلى مساحة مزروعة بالجمال، لا تُقصى فيها الذاكرة، بل تُستحضر بعناية وتُلبس أثوابًا عصرية تليق بها. تحوّلت الشوارع إلى أنغامٍ معمارية، والحدائق إلى دواوين شعرٍ خضراء، والأسواق إلى روافد ثقافية تحكي عن ماضٍ لا يُنسى ومستقبل لا يُؤجَّل. في الطائف، لا يتعارض القديم والجديد، بل يتحاوران كما يتحاور العطر والنسيم، والقصيدة والحرف.
ولهذا، لم يكن غريبًا أن يُطلق على الطائف لقب “مدينة الأدب”، وأن تكون مرشحةً لتكون عاصمة للثقافة الإسلامية، فهي ليست فقط مهدًا للتاريخ، بل منجمًا للإبداع، وملتقىً للغة، ومجالًا للحوار الفكري الممتد من جبالها حتى آفاق العالم. كل شجرة فيها تنبض بقصيدة، وكل زاويةٍ فيها تُومض باسم شاعر، وكل لحظةٍ فيها تدعوك لتكتب، لتتأمل، ولتؤمن أن الجمال ليس حالة عابرة، بل جوهر يسكن المكان.
فالطائف، في مزيجها الفريد بين العراقة والرؤية، بين السوق والقصيدة، بين الإنسان والمكان، لا تختصرها عبارة، ولا توفيها وصف، لأنها ببساطة، ليست مجرد مدينة… بل روح تتجلّى، وتاريخ يُنطق، وبهاء يُحيا. إنها المكان الذي إن سرت فيه، سمعت التاريخ يهمس لك، وإن جلست فيه، شعرت بالهوية تحتضنك، وإن كتبت عنها، لم تُنهِ سطورك… بل بدأت.
الطائف عطرُ المجد
الذي لا يذبل،
ومقام الجمال حين يُصبح للمدن ذاكرة، وللأماكن قلب

أ. د. عائض محمد الزهراني

نائب الرئيس لإتحاد الأكاديميين والعلماء العرب

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. الطائف مصيف جزيرة العرب وجنة السعودية الخضراء وعاصمة الفواكه وروعة الورد الطائفي
    ومقصد سياحي ثري بالمعالم والمتاحف والمقاهي الثقافيه التاريخيه .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى