في كل اقتصاد حديث، هناك نقطة ضعف لا تُكشف بالأرقام، بل بالمشاعر المكبوتة. تُعلن الشركة نتائجها المالية، يتداول الإعلام صفقات الاستحواذ، تُصمم المنصات بأعلى معايير الكفاءة، ويحتفل السوق بقفزاته… ثم يعود المساهم الصغير إلى منزله، يتفقد محفظته، يشعر بالحيرة، وربما بالغضب، لكنه لا يكتب، لا يشتكي، لا يسأل. لأن السوق لم يُصمَّم ليسمعه. وربما لأنه لم يتعلم أن صوته له وزن.
ما نعيشه اليوم في السعودية ليس مجرد تطور في أحجام التداول، بل إعادة بناء شاملة لبيئة الاستثمار. رأس المال الوطني اختلط بالأجنبي، المحافظ الصغيرة أصبحت تُدار بجوار صناديق سيادية، وشاشات التداول تُفتح أمام كل من يملك تطبيقًا وهاتفًا. لكن هذه السرعة في فتح الأبواب لم تُقابل بإعادة تصميم متكاملة لتجربة المساهم. وكأن السوق توسّع خارجيًا، دون أن يتوسّع داخليًا بما يكفي ليحتوي من بدأوا فيه.
التغريدة التي أطلقها الأستاذ خالد الشثري لم تكن صرخة، بل كانت هندسة سؤال:
“لماذا لا توجد جهة لحماية المساهم كما توجد لحماية المستهلك؟”
ليست مقارنة بين حقين، بل كشفٌ لاختلالٍ بنيوي: المستهلك الذي يشتري سلعة تُحمى حقوقه، لكن المساهم الذي يشتري مستقبل شركة، لا يُحمى إلا بمفردات مبهمة، ومنصات معقدة، وتشريعات لا تترجم نفسها إلى تجربة.
وفي هذا المشهد، نرى كيف تُفتقد سلسلة العدالة. الإفصاح موجود، لكن ليس في الوقت المناسب للجميع. التصويت متاح، لكن دون تبسيط يُمكّن الفهم. الشكوى ممكنة، لكن بدون ضمان سرعة الاستجابة والشفافية في القرار. التوعية حاضرة، لكن بعيدة عن السيناريوهات اليومية التي يواجهها المساهم الصغير.
إننا لا نعيش غياب حماية، بل غياب تصميم تجربة متكاملة. السوق يعمل، والأنظمة تُطبق، لكن دورة حماية المساهم لا تزال مكسورة في أكثر من موضع:
• لا توجد جهة واحدة مسؤولة عن التجربة من لحظة فتح المحفظة إلى لحظة اتخاذ القرار المالي.
• تدفق المعلومة غير متناغم، يُسرب الأفضل للأقوى، ويصل للأضعف بعد فوات الأوان.
• الفاقد في الثقة يتسرب تدريجيًا، ثم يُترجم إلى انسحاب صامت من السوق، أو ما هو أسوأ: استسلام جماعي للجهل واللا مبالاة.
في التجارب العالمية، يُعامل المساهم كجزء من سلسلة القيمة الاقتصادية.
في أمريكا، هيئة SEC لا تراقب فقط، بل تصمم أدوات فهم، وتُتيح المحاكاة، وتُجبر الشركات على تبسيط الإفصاح.
في أوروبا، هناك هيئات تتعامل مع “نفسية المستثمر الصغير” وتبني برامج لحمايته من العوامل السلوكية والانفعالية.
في آسيا، تُرسل الشركات تقاريرها بلغة بصرية، وبأمثلة حية، تُترجم الأرقام إلى قرارات.
أما نحن، فما زلنا نرسل له رسالة تقول:
“عزيزي المستثمر، لا تنس التصويت، الرابط في الأسفل.”
دون أن نخبره: لماذا يُصوت؟ ماذا يعني التصويت؟ من سيستفيد من صمته؟ وماذا يخسر إن غاب؟
وهنا تمامًا، تتضح ضرورة إنشاء هيئة حماية المساهمين. ليست جهة بديلة، بل جهة تكاملية تعيد هندسة العلاقة بين المواطن والسوق.
هيئة تعمل بمنهج الوقاية لا المعالجة.
تُراقب ليس فقط ما يحدث، بل ما لم يحدث وكان يجب أن يحدث.
تُعيد توزيع القوة التنظيمية، فتضع المساهم في موضع “المستخدم النهائي” الذي تُصمم السوق لأجله، لا ضده.
هيئة تُحمّل المنصات الرقمية مسؤولية الفهم، لا فقط التوثيق.
وتجعل من التعليم المالي ممارسة يومية، لا برنامجًا توعويًا موسميًا.
ولأن رؤية 2030 قامت على أن المواطن هو المحرك الأول للاقتصاد، فإن أي شعور بالعجز أو الإقصاء أو الغموض في قرارات السوق يُعدّ عائقًا استراتيجيًا أمام تحقيق تلك الرؤية.
لا اقتصاد مزدهر إذا شعر الناس أن السوق يُدار بلغة لا يفهمونها.
ولا مجتمع حيوي إذا خاف أفراده من أن يكونوا جزءًا من دورة المال.
ولا وطن طموح إذا كانت الشفافية سلعة للنخبة، لا قيمة لكل مواطن.
نحن لا نطالب ببيروقراطية جديدة، بل بنقلة مفاهيمية: أن نُعيد تعريف “الحماية” ليس كجدارٍ قانوني، بل كـ تصميم تشغيلي يُمكّن الإنسان، يجعل من كل مواطن مستثمرًا، ومن كل مستثمر شريكًا، ومن كل شريك صوتًا لا يمكن أن يُهمّش.
لذلك، نقولها بوضوح:
السوق الذي لا يسمع صوته… لن يسمع صرخته.