في ريجنت بارك، تتداخل الطبيعة مع العبادة، وتتقاطع الخطوات الهادئة مع نداء الأذان. هناك، في الشمال الغربي من لندن، لا تكون مجرد زائرٍ لحديقة، بل شاهدًا على انسجام نادر بين الخلق والخالق، بين الشجر والمآذن، بين الورد والوِرد.
في صباحٍ باردٍ مشمس، تمرّ بين الممرات الخضراء، حيث تبتسم الزهور في قسم Queen Mary’s Garden، وتتناثر رائحة الورود كأنها آيات تُتلى من كتابٍ مفتوح. وبين ألوان الزهر، تسمع أصوات الطيور وقد جاورت ضحكات الأطفال الذين يتعلمون المشي، ومارّةً يحتمون بظل شجرةٍ وارفة، وعجائزَ يسردون للعصافير ما بقي من الحكايات.
لكن القلب لا يطمئن حتى يصل إلى المسجد.
في الطرف الشمالي من الحديقة، ينتصب المسجد المركزي في لندن، أو كما يُعرف بـ”مسجد ريجنت بارك”. مئذنته الطويلة تشير نحو السماء، كأنها تقول: في قلب هذه المدينة التي لا تنام، ثمة مكان للخشوع.
إنه المسجد الذي أتشرف بخدمته إمامًا وخطيبًا، وأمينًا عامًا لهيئة الفتوى والشؤون الشرعية، التي تتخذ من هذا الصرح مقرًا لها، وتعمل على إرشاد الجالية الإسلامية في بريطانيا وأوروبا في قضايا الزواج والطلاق والمعاملات المالية والحلال، وسائر النوازل المعاصرة.
ترى الداخلين إلى المسجد قبيل صلاة الظهر، وقد أتوا من كل الأعراق واللغات. صينيون وأتراك، عرب وأفارقة، بريطانيون ومهتدون جدد، يجتمعون بلا دعوة مسبقة، يتجهون نحو القبلة، وتتوحّد أصواتهم في “الله أكبر”.
كلٌّ منهم يحمل في وجهه ملامح بلده، لكنه في السجود يصبح ابنًا للأرض ذاتها. تلك هي المعجزة اليومية التي تحدث في هذا المسجد، ولا تراها في نشرات الأخبار.
بعد الصلاة، تعود إلى الحديقة كما لو أنك تعود إلى الدنيا بعد خلوة. كل شجرة تبدو أجمل، وكل طائر يصير أكثر دفئًا. فالعبادة لا تُقصي الحياة، بل تُجمّلها.
تأملت هذا التوازي العجيب:
حديقة تقود إلى مسجد، ومسجد يفتح بابه على الحديقة.
كأن لندن تقول لنا: “الدين لا يُعزل عن الجمال، والجمال لا يُفهم من دون روح.”
في ريجنت بارك، تسير بين آيات الكون وآيات الكتاب، بين بَسْمة زهرةٍ وصوت مؤذّن، بين غصنٍ عالٍ وذِكرٍ خافت.
وهكذا، في مدينةٍ تشتهر بالعجلة والضجيج، يمنحك هذا المكان فسحةً للبطء، للتأمل، وللعودة إلى الذات… وإلى الله.
ريجنت بارك ليست مجرد حديقة…
إنها “آيةٌ خضراء” تُقرأ على مهل، بين الطبيعة والمحراب.
