لم تُقنع الرئيس الأمريكي ترامب كلُّ المنظمات القانونية والإنسانية، ولا الدول المحبة للعدالة والسلام، ولا الآلاف الذين يتزاحمون للحصول على لقمة عيش قد لا تُطفئ توسل بطون الأطفال والنساء، أولئك الذين يحلمون – مع هذا الظلم – أن يتصبّروا بمضغة حتى لا تيبس أمعاؤهم نتيجة فطمهم القسري عن الطعام من قِبل المُحتل المُختل.
كل ذلك لم يُقنع الرئيس الأمريكي بأن هناك مجاعةً في غزة، وأن الجياع هم أناس عانوا من جبروت إسرائيل وتصرفات حماس غير المتزنة، والتي لا تمتّ للحكمة بصلة.
هؤلاء هم حطب نَهَم إسرائيل للدماء، وفرصة على طبق من ذهب لتنفيذ أطماع المتطرفين وأجنداتهم. فالقتل والدمار يتلذذ بهما نتنياهو وسموتريتش وبن غفير، وغيرهم من مصاصي الدماء.
ولم تُقنعه كذلك تصريحات يائير لابيد، رئيس المعارضة الإسرائيلية، ولا إيهود أولمرت، أحد رؤساء حكومات تل أبيب السابقين، ولا حتى المنظمات اليهودية ولا الصحف، وبالذات صحيفة هآرتس. جميعهم أعلنوا – وهم خصوم وأعداء – أن هناك مجاعة وقتلًا ودمارًا.
ناهيك عن تصريحات جنود إسرائيليين تحدّثوا عن أوامر بالقتل تُصدر إليهم دون تمييز، وروايات تُدمي القلوب، فضلًا عن عيونٍ دموعُها لم تعد تكفي لتوصيف حالة سكان غزة والبؤس الذي يعيشونه.
كل هذا لم يُقنع أمريكا بأن إسرائيل قد تجاوزت كل الخطوط الحمراء: الدولية، والقانونية، والإنسانية.
ويتصدى رئيسها لمؤتمر “حل الدولتين” بقوله: إنه لا يعنيه، وينتقد الدول التي انحازت للحق. بل إن الأخبار تقول إنه وافق – إن لم يكن قد حضّ إسرائيل – على زيادة هجماتها، وبالتالي قتل المزيد، وكأن 120 بريئًا يُقتلون يوميًا هو عدد ضئيل لا قيمة له، ولا كأن روح أحدهم تعني شيئًا.
بل أيضًا، صرّحت وزارة الخارجية الأمريكية بعدم منح تأشيرات للسلطة الفلسطينية، ردًا على عزم الدول المحبة للعدالة الاعتراف بدولة فلسطين.
يا فخامة الرئيس، الأطفال الجياع والنساء الحوامل هم بشر. سيحاكم التاريخ – كل من شارك في فقدانهم الأرواح، والإصابات، والإعاقات التي لحقت بهم.
لقد شاهد الجميع الأطفال والمراهقين وقد فقدوا بعض أعضائهم، كما شاهدناهم كالأشباح من شُحّ التغذية، وكأن أجسادهم تنطق بعظامها البارزة عن هول المعاناة.
يا فخامة الرئيس، أنتم تأكلون الكافيار الإيراني – الذي تدّعون أنكم على خلاف معه – والأطفال يتضوّرون جوعًا، وأعظم أمانيهم “رشفة حليب”! لا يفكرون في قطعة شوكولاتة أو آيس كريم، فقد يئسوا من مباهج الحياة، وأصبحت تلك من الأحلام.
لقد نسوا كلمة “علاج”، وعبارة “عناية إنسانية أو طبية”، فقد فهموا واستوعبوا أن العدالة في هذه الحياة أصبحت من العجائب والمعجزات، في ظل هيمنة دول عظمى على القرارات في المشهد العالمي.
ألم يلفت انتباهكم أن الآلاف يلهثون للحاق بما ترميه الطائرات من فتات، أو من منظمة تُدعى “غزة لا إنسانية”، من فضلات، وهم يعلمون تمام العلم أنهم سيُقصفون من طائرات ودبابات إسرائيل، التي هي من صنع أمريكا، وباستمرار تزويدها بأدوات القتل؟ بل وحتى قبل فترة، أُرسلت لها دفعة من الجرارات تُستخدم في هدم المساكن على رؤوس أهلها.
نعم، حماس قد اتخذت خطوات متهورة، وحتى الحكومة الفلسطينية أدانت هذا التصرف، الذي قدّم الذرائع للاحتلال، فقام بأكبر مذبحة في التاريخ الحديث، سواء بالسلاح أو بالتجويع.
ولكن، ألا يكفي هذا القتل والدمار؟
أليس لهذا الظلم والاستبداد من آخر؟
أما آن الأوان أن تقولوا لنتنياهو: كفى؟
أعجب من قيادات تهتم بمتطرفين وتدافع عنهم، ولا تستمع لصوت العقل والضمير، الذي تنتهجه بقية الدول، وعلى رأسها المملكة العربية السعودية، التي تناضل على كل الجبهات لوقف الحرب، بل وتعمل على أن ينال الفلسطينيون حقوقهم. وكان اجتماع “حل الدولتين” الذي رأسته المملكة وفرنسا تتويجًا لهذه الجهود.
أما آن للدول العربية والإسلامية التي تُقيم علاقات مع هذا الكيان المجرم، أن تتخذ خطوة تُفهم هؤلاء أن لجرائمهم ثمنًا يدفعونه – ولو رمزيًا؟ لقد قامت دول أوروبية وغيرها بخطوات ضد هذا الجبروت الإسرائيلي، ولم تكتفِ بالتنديد، بل إن الاتحاد الأوروبي على وشك إقرار إجراءات عقابية ضده.
فمن المعيب أن تظل بعض الدول العربية والإسلامية تُحافظ على تلك العلاقات…
فإذا لم تقطعوا العلاقات، فعلّقوها، وهذا أدنى المواقف. أو اسحبوا السفراء للتشاور.
أما حماس، فلعل قادتها يخجلون وهم يرون تلك الدماء تُهدر، وهم يفاوضون على بقاء حكمهم لغزة.
فلا نامت أعين الجبناء.



