المقالات

تكوين المعلّم السعودي: نموذج وطني أم تجربة مستوردة؟

رغم ما تحمله الشراكات التعليمية الدولية من فرص لتبادل الخبرات وتجويد الممارسات، فإن غياب القراءة النقدية عند استيراد تلك النماذج قد يؤدي إلى ذوبان الهوية التعليمية، والارتهان لمرجعيات لم تُبنَ ضمن سياقنا الوطني. فالركون إلى حلول جاهزة دون فحص جذورها الفلسفية أو تحليل بنيتها التطبيقية يُعدُّ ضربًا من التبعية المفاهيمية التي تُربك مسارات التطوير أكثر مما تخدمها.

ويتجلّى هذا القصور في بعض الخطابات التربوية التي تناولت الشراكة بين المعهد الوطني للتطوير المهني للمعلمين والمعهد الوطني السنغافوري لإعداد المعلم، والتي رُوّج لها بوصفها تحوّلًا نوعيًا يُدشّن مرحلة جديدة في تكوين المعلّم السعودي، متجاهلةً منظومة التكوين العريقة في الجامعات السعودية، ومقصيةً لدورها التكويني الطبيعي في مشهد التطوير التعليمي. وهو ما يستدعي مراجعة جادّة لهذا التوجه من منظور علمي ومهني متجرّد.

وقد مثّل المقال المنشور في صحيفة مكة بتاريخ 26 مايو 2025، والمعنون بـ”كليات التربية منارات العلم والمعرفة”، تعبيرًا صريحًا عن هذا الخطاب الاحتفائي؛ إذ تبنّى رؤية تفاؤلية تُغلّب الأثر الإعلامي على التحليل النقدي، وأشاد بخطوات إجرائية وتنفيذية دون مساءلة عمقها الفلسفي أو مواءمتها البنيوية للواقع المحلي. وهو توجه يُغفل العلاقة العضوية بين فاعلية النماذج والبيئة التي نشأت فيها، ما يجعل تعميمها خارج سياقها مغامرة أكثر من كونه ضمانة للتطوير.

إن عمليات النقل التربوي العابرة للسياقات لا تُعدّ مجدية ما لم تُبنَ على أسس تأصيلية تراعي الخصائص المؤسسية والثقافية والمجتمعية. فالنموذج السنغافوري، رغم تفوقه في بيئته، نشأ في دولة صغيرة، عالية المركزية، متجانسة من حيث النظام والثقافة والتنظيم، وهو ما يختلف جذريًا عن السياق السعودي، بما يحمله من اتساع جغرافي وتنوع مجتمعي وتحديات تنظيمية. لذا فإن ترجمة المحتوى أو تكييف الأنشطة لا يُعدّ مواءمة حقيقية، ولا يُنتج نموذجًا وطنيًا قابلًا للاستدامة.

وتتفاقم الإشكالية حين يُسند تنفيذ هذا النموذج إلى كليات التربية في ست جامعات سعودية، دون إشراكها في صناعة القرار أو تصميم البرامج. وتلك الكليات تحتضن نُخبًا علمية مؤهّلة، ذات تأهيل عالٍ وخبرات تراكمية في المجالين الأكاديمي والميداني، مما يؤهّلها لقيادة مشروعات التطوير لا تنفيذها فقط. أما التعامل معها كمجرد منفذٍ لبرامج مستوردة، يخضع أعضاؤها لدورات تدريبية على محتوى جاهز، فإنه يُضعف من مكانتها ويُهمّش قدرتها على الإسهام الفاعل في البناء الوطني.

وما يزيد من محدودية هذه الشراكة أنها لم تُطرح ضمن إطار مشروع وطني متكامل لتكوين المعلم، بل جرى تقديمها، في بعض الخطابات، بوصفها بديلًا جاهزًا يُغني عن جهود الداخل. وهذا اختزال مخلّ لفلسفة التطوير، وتجاوز غير مبرّر لمؤسسات وطنية راسخة كهيئة تقويم التعليم والتدريب، والمعهد الوطني للتطوير المهني للمعلمين، والجامعات السعودية. فكيف يُبرَّر الاعتماد على نموذج خارجي في ظل ما تمتلكه المملكة من بنية مؤسسية متكاملة وكفاءات وطنية ذات خبرة عريقة في إعداد المعلمين؟

فضلًا عن التساؤلات المتعلقة بجوهر النموذج وفلسفته، يبرز تساؤل لا يقلّ أهمية حول الإطار الأكاديمي والتنظيمي لهذا البرنامج، لا سيما أنه قُدّم بوصفه برنامجًا لتأهيل المعلمين بدرجة الدبلوم، ويُنفذ فعليًا داخل جامعات سعودية. وهنا تبرز الحاجة إلى التحقق من مدى التزام هذه الجامعات – بوصفها جهات تنفيذ أكاديمية – بمتطلبات الاعتماد البرامجي لدى هيئة تقويم التعليم والتدريب، ابتداءً من إجراءات استحداث البرنامج، ومرورًا برسالته وأهدافه، وتصميم هيكله ومقرراته، واتساق نواتج تعلّم المقررات مع نواتج تعلّم البرنامج ككل، وانتهاءً باستيفائه لكافة متطلبات الجودة والحوكمة الأكاديمية.

فإن لم يكن البرنامج قد خضع فعليًا لهذه الأطر النظامية، فإن ذلك يفتح باب التساؤل حول موقعه المؤسسي، وطبيعة المؤهل الممنوح من خلاله، ومدى اتساقه مع المعايير الوطنية للبرامج التأهيلية، خاصةً وأنه يُنفّذ داخل مؤسسات أكاديمية مسؤولة عن ضمان جودة ما يُطرح تحت مظلتها.

إن مجرد التسليم الضمني بعدم قدرة المملكة على تطوير نموذج محلي لإعداد المعلّم يُعدّ إشكالية في التفكير، لا في التنفيذ. فغياب الرؤية لا يُعالج باستيرادها، بل بإعادة هندسة الداخل، وتفعيل المؤسسات، وتوجيه القدرات نحو بناء نموذج ينبع من الواقع الوطني ويستجيب له. وإذا ظل خيار النقل هو الخيار الأول، فمتى ننتقل من الاستيراد إلى التأصيل، ومن الاستجابة إلى المبادرة، ومن تلقّي الحلول إلى صناعتها؟

إن تكوين المعلم ليس إجراءً عابرًا ولا برنامجًا طارئًا، بل هو مسار تكويني طويل يبدأ من التخطيط الأكاديمي، ويمرّ بالتكوين المهني المتكامل، وينتهي بمنظومة تطوير مستمر تستجيب لمتغيرات الميدان. وهذا المسار لا يُختزل في مقررات مستوردة ولا في تدريب مؤقت، بل يُبنى عبر شراكة بنائية فاعلة بين الجامعات والمدارس، ومن خلال فلسفة تربوية وطنية تستلهم التجارب العالمية دون أن تستنسخها.

والمملكة العربية السعودية، بما تمتلكه من إرادة سياسية، ومقدّرات بشرية، وهيئات متخصصة، وجامعات مرموقة، قادرة على إنتاج نموذج وطني لتكوين المعلم يُراعي خصوصيتها، ويُلبي أولوياتها التنموية، وينسجم مع سياقها الثقافي والاجتماعي. غير أن هذا التوجه يقتضي سيادة فكرية مسؤولة، وقرارًا وطنيًا شجاعًا يُعيد الاعتبار للجامعات كمراكز لإنتاج المعرفة لا منصاتٍ لتنفيذ التجارب الأجنبية.

فالشراكات الدولية يمكن أن تكون رافدًا محفّزًا لا مرجعية بديلة، وأداة إثراء لا نقطة ارتكاز. وحين تتكامل الرؤية، وتُفعّل الإمكانات، وتُستعاد الثقة في الذات المؤسسية لمؤسسات تكوين المعلم، فإن النموذج الذي نحتاجه لن يُستورد من الخارج، بل سيُولد من رحم الحاجة الوطنية، ويترعرع في بيئة من السيادة والوعي، ويُجسّد بحق ملامح التعليم الذي نريد

أ.د. أحمد بن محمد الزائدي

مدير إدارة التعليم بمنطقة مكة المكرمة سابقًا

مقالات ذات صلة

‫5 تعليقات

  1. أسعد الله مسائكم وصباحكم بكل خير دكتورنا الغالي. كلام رائع جدا فيه تأطير لعملية تطوير العملية التعليمية بجميع مكوناتها وأيضا أخذت بعدا آخر الثقافة ألمجتمعية والبعد الاجتماعي أيضا واصلت تألقك في إعطاء المؤسسة التربوية بما تذخر به من اكادميين وكوادر بشرية مؤهلة على أعلى المراتب العملية. وكما ابحرت في المقال لايمكن أن تكون التجارب الأجنبية بما تحمله من مؤثرات خاصة بها في بيئتها صالحة لتكون في بيئة أخرى ناجحة. النجاح هو الإعتماد على نموذج خاص يولد من رحم مؤسساتنا التعليمية و كفائتنا الوطنية مع الإستفادة من التجارب الأخرى والاستمرارية في التطوير والتحسين. وفي الاخير. من التجارب التي تمت في بعض مدارس المملكة في الخارج نظام البكالوريا الدولية تم نقله كامل للمدارس السعودية في الخارج وكانت تجربة سيئة بما فيها وعليها من تعيين لمعلمين غير مؤهلين تربويا لدرجة يصعب التحدث بها وفي الأخير تم إلغائها. ليس جميع نماذج وتجارب الدول الناجحة فيها شرطا ينجح في دول أخرى . دمتم بصحة وسلامة

  2. ليتك تكتب وتكرر فلعل كلمة تدق الأسماع فيفتح لها ! أو تزعج فليتفت لها فتعلم …
    – مع أن تجربتي في قيادة التعليم وإن اتسع شيئاما ميدانها وقد عابها أنها كانت تحت سقف لايسمح لرفع الرأس فقد كنت مدير مكتب تعليم وقبله رئيس قسم في الإشراف التربوي فقط … لكنه أعجبني جدا ماورد في مقالك هذا فهو والله لو نطق الميدان ، الجامد منه لقال مثله أو على الأقل لصفق لك وقال نعم نعم هذه مشكلتي … قد يكون طريق الهدف بعيدا لكن الخطا الثابتة التي تنطلق من عند قدم المريد هي التي توصل له ، وقد يقول المستشار اقفز لنغنم الوقت ، لكن قفزة تنجح وقفزة تفشل .. ثم هو مكانه مكانه لم يتقدم ..
    وربما تقهقر … يجب أن تشخص المشكلة بدقة ويقرر العلاج بدقة قبل الانطلاق نحو التطوير ..

  3. كل ما يكتب هذا الرجل الرائع الممتع نجد الفائدة من فكره وخبرته المتجددة ..

  4. (ليتك تكتب وتكرر فلعل كلمة تدق الأسماع فيفتح لها ! أو تزعج فليتفت لها فتعلم …
    – مع أن تجربتي في قيادة التعليم وإن اتسع شيئاما ميدانها وقد عابها أنها كانت تحت سقف لايسمح لرفع الرأس فقد كنت مدير مكتب تعليم وقبله رئيس قسم في الإشراف التربوي فقط … لكنه أعجبني جدا ماورد في مقالك هذا فهو والله لو نطق الميدان ، الجامد منه لقال مثله أو على الأقل لصفق لك وقال نعم نعم هذه مشكلتي … قد يكون طريق الهدف بعيدا لكن الخطا الثابتة التي تنطلق من عند قدم المريد هي التي توصل له ، وقد يقول المستشار اقفز لنغنم الوقت ، لكن قفزة تنجح وقفزة تفشل .. ثم هو مكانه مكانه لم يتقدم ..
    وربما تقهقر … يجب أن تشخص المشكلة بدقة ويقرر العلاج بدقة قبل الانطلاق نحو التطوير .. )

  5. اصبت كبد الحقيقة ايها الاستاذ القدير .
    ويجب أن لا يمر مقالك مرور الكرام على المهتمين بتطوير التعليم في بلادنا لأنني أجزم اننا في هذا البلد المبارك نملك كل المقومات المادية والبشرية التي تمكنا ليس فقط من صناعة نموذج وطني لتكوين معلم سعودي عالمي بل وتصدير هذا النموذج الناجح .

اترك رداً على أحمد بن مهنا الصحفي إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى