المقالات

الجامعة السعودية بين الحرية والحوكمة… المعادلة الذكية

تبلغ الجامعة نضجها حين تفكّر بحرية، وتُدار بوعيٍ يحفظ توازنها بين الاستقلال والمسؤولية. هذه هي المعادلة التي يسعى التعليم الجامعي السعودي إلى تحقيقها في ضوء رؤية 2030، التي جعلت من الجامعة رافعةً للتنمية ومحركًا للابتكار.

ومع هذا التحول الكبير، تبرز مفارقة دقيقة؛ فبينما تُمنح الجامعات صلاحيات أوسع، تتزايد في المقابل أدوات الضبط المالي والإداري. وهكذا تتحرك في مساحةٍ دقيقة بين حريةٍ مشروطة وحوكمةٍ منضبطة.

والسؤال: كيف تتحقق الكفاءة دون أن تُختزل في ترشيد الإنفاق؟ وكيف يُمارس التمكين دون أن يتحول إلى تبعيةٍ جديدة؟

ولفهم هذه الإشكالية بعمق، لا بد من النظر إلى التجارب العالمية التي سبقتنا في تحقيق هذا التوازن الصعب بين الحرية والمسؤولية. فجامعات أكسفورد وكامبريدج تحتفظ بحرية القرار الأكاديمي رغم خضوعها لنظامٍ وطني صارم في التمويل والمتابعة. وفي كندا، تُدار الجامعات عبر مجالس مستقلة تُحاسَب على النتائج لا على الإجراءات. أما أستراليا فقد جعلت التمويل وسيلةً للتحفيز لا للسيطرة، فربطت الاستقلال بالأداء وجودة المخرجات.

وتؤكد هذه النماذج أن الحرية بلا مسؤولية تُهدر الاتجاه، وأن الحوكمة حين تُفرغ من معناها المعرفي تتحول إلى أداة ضبط لا إلى منظومة ثقةٍ وإبداع.

ومن هذا المنطلق، يبدو المشهد السعودي جزءًا من هذا المسار العالمي في البحث عن التوازن، لكنه لا يزال في طور التشكل والتجريب.

فمجلس شؤون الجامعات وضع إطارًا وطنيًا موحدًا لضبط الحوكمة والمسارات، غير أن حضوره التنفيذي ما زال طاغيًا على تفاصيل الإدارة الجامعية. وهكذا تُطالَب الجامعات بالابتكار وهي تعمل في مساحةٍ محدودة، تُقاس فيها مرونتها بمدى امتثالها لا بقدرتها على التجديد.

وقد أفرزت هذه المفارقة تحولًا في طبيعة القيادة الجامعية؛ إذ برز نمطٌ إداريٌّ يركّز على التنفيذ والانضباط أكثر من التركيز على الفكر والإبداع، ما يستدعي إعادة التوازن بين البعد التشغيلي والبعد المعرفي في إدارة الجامعة.

وفي ظل هذا الواقع، تميل القيادة الجامعية اليوم إلى النمط التنفيذي الذي يُحسن إدارة الموارد أكثر مما يُحفّز الإبداع.

وهذا التوجه مفهوم في ظل التحول نحو كفاءة الإنفاق، لكنه يكشف الحاجة إلى توازنٍ أدق بين الكفاءة التشغيلية والرؤية الفكرية. فنجاح الجامعة لا يُقاس بالانضباط المالي وحده، بل بقدرتها على توليد الأفكار وصناعة الحلول. فالكفاءة تضبط المسار، أما الإلهام فيصنع الاتجاه.

ومن هنا، يتضح أن التحدي الحقيقي لا يكمن في تطوير اللوائح بقدر ما يكمن في إعادة توزيع الثقة بين مجلس شؤون الجامعات والجامعات نفسها.

فالثقة ليست نقيض الحوكمة، بل شرطها الأول. لا يمكن مساءلة الجامعة على ما لم تُمنح حرية قراره. ولذلك، فإن المنظومة الوطنية للتعليم الجامعي مدعوة إلى التحول من جهةٍ ناظمة إلى ممكّنٍ استراتيجي، يمنح الجامعات مساحةً أوسع للمبادرة الأكاديمية والبحثية، في إطار رؤيةٍ وطنيةٍ تقيس الأثر لا الإجراءات، وتضمن في الوقت ذاته رقابةً نوعيةً على المخرجات تحافظ على معايير الجودة والمساءلة.

وعند هذه النقطة يتبدّل السؤال من “كيف تُدار الجامعات؟” إلى “كيف تُصنع الثقة داخل نظام الحوكمة نفسه؟”

فليس المقصود بالاستقلال أن تتحول الجامعة إلى كيانٍ تجاري يعتمد على موارده الذاتية ويُدار بعقلية الشركات، بل أن تُمارس دورها الفكري والعلمي في إطارٍ من الحرية المسؤولة والانضباط المؤسسي.

فالاستقلال لا يعني الابتعاد عن المنظومة الوطنية للتعليم الجامعي، بل الاندماج الواعي في رؤيتها بوصفها الحاضن الرئيس للتنمية والضامن لحرية المعرفة.

فالقيادة الوطنية الحديثة، كما تجسدها رؤية المملكة 2030، لا تنظر إلى الجامعات كجهاتٍ تابعة، بل كشركاء في صناعة المستقبل، تجمعها بالمنظومة الوطنية علاقة تكاملٍ بين القيادة الفكرية والقيادة التنموية.

وفي السياق السعودي، يتجلى مفهوم الاستقلال المنشود في شراكةٍ متوازنةٍ بين الثقة والنتائج، لا في فكّ الارتباط بالمنظومة الوطنية. ومن هنا تأتي أهمية تأسيس هيئة البحث والتطوير والابتكار (RDIA) كخطوةٍ استراتيجيةٍ تؤكد هذا الاتجاه؛ فهي تربط الجامعات ومراكز البحث والقطاعين العام والخاص في شبكةٍ واحدة، وتقدّم نموذجًا لـ«حوكمة المعرفة» التي تجمع بين استقلال القرار ووضوح المسار.

وبذلك تثبت أن الكفاءة لا تتحقق بالتقييد، بل بالتكامل، وأن الابتكار لا يزدهر إلا في بيئةٍ من الاستقلال الواعي والثقة المنظمة.

إن بناء جامعةٍ قادرةٍ على المنافسة لا يتحقق بالهيكلة وحدها، بل بتحولٍ ثقافيٍ يعيد تعريف الحوكمة بوصفها شراكةً لا رقابة، ووعيًا يُدار بالثقة لا بالخوف من الخطأ. فحين تُدار الحوكمة كمنظومةٍ للثقة والمعرفة، لا كأداة ضبطٍ وإشراف، تصبح الجامعة السعودية مختبرًا وطنيًا لتصميم المستقبل، لا مجرد مؤسسة لإدارته.

وحين تفكر الجامعة بحرية، وتعمل بمسؤولية، وتبتكر بثقة، تبلغ معادلتها الذكية، وتصبح نموذجًا وطنيًا في القيادة الفكرية والتنظيم الواعي.

أ.د. أحمد بن محمد الزائدي

مدير إدارة التعليم بمنطقة مكة المكرمة سابقًا

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. ليس المقصود بالاستقلال أن تتحول الجامعة إلى كيانٍ تجاري يعتمد على موارده الذاتية ويُدار بعقلية الشركات، بل أن تكون كيانًا فكريًا معرفيًا يمتلك قراره الأكاديمي والبحثي في ضوء مسؤولية وطنية واضحة. فالجامعة ليست مشروع ربح، بل مشروع وعيٍ وتنمية. ومتى ما أُحسن الموازنة بين الاستقلال والمساءلة، وبين الكفاءة والإلهام، اكتمل نضج المنظومة الجامعية وتحقق جوهر رؤيتها.

    شكرًا للكاتب الدكتور أحمد الزايدي على هذا الطرح العميق والرؤية المتزنة التي لامست جوهر التحول الجامعي وأبرزت الحاجة إلى تفعيل الثقة كقيمةٍ حاكمة في إدارة المعرفة والتنمية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى