المقالات

سباق التصنيفات… حين تتقدّم الأرقام ويتأخر المعنى

أستاذ القيادة التربوية

شهدت تصنيفات الجامعات خلال العقدين الأخيرين تحوّلًا واضحًا. فقد انتقلت من أدوات لقياس الأداء إلى ظاهرة عالمية تتداخل فيها اعتبارات السمعة والتمويل. لم يعد ترتيب الجامعة رقمًا في جدول، بل أصبح علامة تُؤثر في الإعلام، ووسيلة لجذب الموارد، ومحركًا للشراكات الدولية. ومع اتساع هذا الدور، اكتسبت التصنيفات طابعًا تجاريًا متناميًا، حتى غدت صناعة قائمة على البيانات والخدمات التحليلية والاستشارات.

وتُشير تقارير IREG Observatory وQS Insights إلى توسّع سوق التصنيفات خلال السنوات الماضية. كما أصبحت الخدمات المدفوعة—وهي خدمات تُقدم للجامعات لتحسين جودة بياناتها—جزءًا مهمًا من نموذج عمل عدد من شركات التصنيف. هذا التحوّل يعكس انتقال التصنيف من أداة قياس إلى نشاط اقتصادي تتقاطع فيه المصالح والموارد والأسواق.

ولا يقف تأثير هذا التحوّل عند الشركات. فالدراسات الحديثة توضّح أن حضور التصنيفات في سياسات الجامعات قد يُعيد ترتيب الأولويات. تتجه بعض المؤسسات إلى رفع المؤشرات سريعة القياس، مثل زيادة عدد النشر أو توسيع نسب التدويل، حتى لو لم يرتبط ذلك بتحسين فعلي في جودة البرامج أو قوة البحث أو صلة الجامعة بمجتمعها. وهكذا تنشأ فجوة بين ما يُقاس وما ينبغي فعليًا أن يُقاس، وبين ما يرفع ترتيب الجامعة وما يرفع قيمتها.

على المستوى المحلي، ارتبط صعود الجامعات السعودية في التصنيفات برؤية طموحة تستهدف وجود خمس جامعات ضمن أفضل مئتين عالميًا. هذا الهدف يعكس إدراكًا متقدمًا لدور الجامعة في بناء اقتصاد وطني تنافسي. لكن التعامل مع هذه الأهداف يقتضي فهمًا دقيقًا للمنهجيات التي تقوم عليها التصنيفات العالمية.

فتصنيفات مثل شنغهاي وكيو إس والتايمز تعتمد على ثلاثة محاور رئيسة: حجم النشر، عدد الاستشهادات، والانفتاح الدولي. ومع مرور الوقت، تحولت هذه المحاور إلى سوق واسعة تستثمر فيها الجامعات موارد كبيرة لتحسين بياناتها، ما قاد في عدد من الدول إلى ما أصبح يُعرف بـ«اقتصاد التصنيف».

وتزداد الصورة تعقيدًا مع اختلاف البيئات الجامعية حول العالم. فجامعات أوروبا وأمريكا تعمل ضمن أنظمة مستقلة وتمويل مرن، يسمح لها بالتكيّف مع متطلبات المؤشرات. بينما تواجه جامعات كثيرة في آسيا والشرق الأوسط قيودًا تشريعية وتمويلية تضيق مساحات المناورة. ومع ذلك، تُقاس جميعها بالأدوات نفسها، وكأن الجودة الجامعية مفهوم واحد لا يراعي الخصوصيات ولا اختلاف الأدوار الوطنية.

ورغم ذلك، حققت الجامعات السعودية قفزات لافتة. فقد ظهرت أكثر من اثنتي عشرة جامعة في التصنيفات العالمية، وتقدمت جامعات كبرى إلى مواقع متقدمة. ويعكس هذا التقدم نضجًا مؤسسيًا ووعيًا بحثيًا متزايدًا. لكنه يعيد طرح سؤال جوهري: كيف نحافظ على هذا الصعود دون أن يتحول التصنيف إلى غاية بحد ذاته؟

النماذج الدولية تقدّم رؤى متنوعة للإجابة. ففي كوريا الجنوبية، ارتبطت الجامعة بالصناعة والاقتصاد الإنتاجي. وفي كندا، حافظت المؤسسات الجامعية على توازن بين البحث والتعليم وخدمة المجتمع. أما أستراليا، فركزت على جودة التدريس وتجربة الطالب. هذه النماذج—على اختلافها—تؤكد أن كل منظومة جامعية تحتاج إلى بناء هويتها الخاصة ومعايير نجاحها التي تستجيب لاحتياجاتها الوطنية، لا لمتطلبات السباق العالمي وحده.

وفي السعودية، تتكامل الجهود اليوم في مجالات تنمية القدرات البشرية والبحث والابتكار، مع الدور التنظيمي لهيئة تقويم التعليم والتدريب، لبناء منظومة تجعل الجامعة أكثر وعيًا بذاتها وأكثر ارتباطًا بسياقها الوطني. وعندما تُبنى الجودة من الداخل—من فلسفة التعليم، وتنظيم البرامج، وعمق البحث التطبيقي، وتجربة الطالب، وصلتها بالتنمية—يصبح التصنيف نتيجة لا هدفًا، وأداة لقراءة الواقع لا وسيلة لصناعته.

إن الوصول إلى قائمة أفضل مئة جامعة عالميًا ليس حلمًا بعيدًا. لكنه لن يتحقق بالأرقام وحدها، بل بصدق البيانات، واستقلال القرار، وقدرة الجامعة على تحويل المعرفة إلى قيمة وطنية. فالتصنيف مرآة نسبية، أما الريادة فهي في الجامعة التي تُفكّر وتُنتج وتخدم وتبتكر؛ الجامعة التي تصنع القيمة قبل المركز، والمعنى قبل الرقم.

• المدير العام للتعليم بمنطقة مكة سابقاً

أ.د. أحمد بن محمد الزائدي

مدير إدارة التعليم بمنطقة مكة المكرمة سابقًا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى