في عام 2017، أُعلنت مبادرة تقنيات البناء الحديث كنقطة تحوّل استراتيجية في قطاع الإسكان السعودي. لم تكن مجرد تحديث في أدوات التشييد، بل كانت وعدًا بتحوّل شامل يُغيّر الصورة النمطية للسكن: منزل يكتمل في أسابيع قليلة، وأحيانًا في 48 ساعة فقط، ويُنتظر من الجيل الرابع من التقنيات أن يُنجز دورًا كاملًا في يوم واحد. وُعِد المواطن بجودة أعلى، وتكلفة أقل، ومصانع وطنية ترفع المحتوى المحلي، وسوق إسكان أوسع عرضًا وأقل سعرًا.
لكن ما بين وعد الأمس وواقع اليوم، يقف المواطن ليسأل: أين شبكة المصانع المؤهّلة التي تملأ السوق بمنتجات البناء الحديث؟ أين المؤشرات التي تثبت أننا انتقلنا فعليًّا من الأساليب التقليدية إلى الحديثة؟ والأهم، أين الأثر المباشر على جيب المواطن وميزانيته؟ هل تحوّل القسط الشهري إلى 35% من الدخل ولفترة سداد معقولة، أم بقي استنزافًا لـ 65% من الراتب على مدى ثلاثين عامًا؟ وهل شعارات كفاءة الإنفاق تحوّلت إلى سياسات واستراتيجيات، أم بقيت كلمات معلّقة؟
فالرقم المستهدف ليس سطرًا في تقرير أو شريحة في عرض مرئي، بل وحدات قائمة على أرضها، محسوبة في دفاتر الإنجاز، ومسكونة بأهلها، سَكَنًا يظلّهم، وسُكْنَى تُطمئن قلوبهم. الرقم الحقّ هو ما يلمسه المواطن مفتاحًا في يده، وأمانًا في معيشته، وسَّكِينَةً في مستقبل أسرته.
وبينما ننتظر اكتمال الأثر، كان العالم يمضي في التنفيذ. في تكساس، مشروع Wolf Ranch أتم 95 منزلًا مطبوعًا بالخرسانة ثلاثية الأبعاد، ودبي شيدت مقر مؤسسة المستقبل في 17 يومًا، وفرنسا أسكنت عائلة في منزل مطبوع منذ 2018، وسنغافورة تقترب من تحقيق هدف أن تكون 70% من مبانيها الجديدة بنظام البناء المعياري بحلول 2025.
هذه التجارب لم تنجح لأنها أغنى أو أقدر، بل لأنها ربطت الإعلان بالمؤشر، والمصنع بالمشروع، ووضعت آليات متابعة ومساءلة. وإن كانت فرصة البناء الحديث قد مرّت دون أثرها الكامل، فلا ينبغي أن نفوّت تقنيات بناء المستقبل: الطباعة ثلاثية الأبعاد، البناء المعياري الجاهز، المواد الذكية، والروبوتات والأتمتة، باعتبارها أدوات استراتيجية تختصر زمن الإنجاز وتعيد صياغة معادلة القسط والدخل لصالح المواطن.
ولمن يرى أن دخول هذه التقنيات يبدأ من الصفر وكلفته عالية، نذكّره بأن العقد القادم ليس كسابقه؛ فالمملكة أمام طفرة عمرانية غير مسبوقة استعدادًا لكأس آسيا 2027، دورة الألعاب الآسيوية الشتوية 2029، معرض إكسبو 2030، وكأس العالم 2034، إلى جانب مشاريع نيوم، القدية، وسط جدة، والبحر الأحمر. هذه ليست مناسبات عابرة، بل منصات لتأسيس معيار جديد للبناء، إذا أحسنا استثمارها.
وهنا، يصبح من الطبيعي أن يتداخل الدعم الصناعي مع الرؤية السكنية، فتقوم الدولة بتوسيع قاعدة الإنتاج المحلي لمكوّنات البناء الحديث والمستقبلي، عبر مصانع وطنية مدعومة، وأراضٍ صناعية مجهّزة، وإعفاءات تسهّل تأسيس خطوط إنتاج للهياكل الجاهزة، ووحدات الطباعة ثلاثية الأبعاد، والمواد الذكية. ومع الصناعة، يأتي التمويل الميسّر كجسر يصل التقنية ببيت المواطن، عبر قروض منخفضة التكلفة، وفترات سداد مرنة، وحزم تشجّع الأسر على الإقبال دون أن تُرهق ميزانيتها.
وفي المقابل، تُستنهض الشركات المحلية لتكون شريكًا في هذا التحوّل، فتُمنح الحوافز المادية والتفضيل في المناقصات، إذا التزمت بنسبة محددة من البناء الحديث في مشاريعها. ويواكب ذلك استثمار في الإنسان عبر برامج تدريبية تؤهّل كوادر سعودية لإتقان تشغيل وصيانة هذه التقنيات، ليكون التغيير صناعة وطنية من الألف إلى الياء.
كما أن دعم الصناعات المغذّية – من الخرسانة الذكية إلى أنظمة العزل المتقدمة – سيضمن أن سلاسل الإمداد لا تنكسر، وأن الاعتماد على الخارج يتقلّص، فتستقر الأسعار وتتحسن الجودة. وهنا، تصبح مشاريع الإزالة في جدة ومكة والرياض مختبرًا حيًّا، تُعاد فيه الأحياء إلى الحياة بسرعة وجودة، وتُسلَّم كاملة الخدمات في أوقات قياسية، لتثبت للمواطن أن الوعد هذه المرة وصل إلى بيته.
السكنُ ليس جدرانًا وسقفًا؛ هو السُّكْنَى والسَّكَن وسُكَنَانَا والسَّكِينَة، طمأنينة تبدأ منذ إعلان المشروع ولا تكتمل إلا بمفتاح في يد المواطن. المملكة التي تبني نيوم وذا لاين قادرة على أن تجعل من هذه التقنيات معيارًا وطنيًّا، لكن النجاح لن يأتي من طموح التقنية وحده، بل من جرأة القرار الذي يربط المبادرة بميزانية الأسرة، والخطة بالمؤشر، والمصنع بالموقع، والإعلان بالتنفيذ… *فالجواب ليس في السؤال، بل في القرار، وفي أن نرى سُكَنَانَا والسُّكْنَى والسَّكَن والسَّكِينَة واقعًا يعيشه كل مواطن.*






