المقالات

رحلتي مع الفن (1-2)

قبل كل شيء أود أن أنوه أن كل ما سأذكره هنا هو بمثابة رحلة هاوٍ في عالم الفن حسب ما تسعف به الذاكرة، وليس من منطلق تأرخة الفن إطلاقاً. فمع الزمن تغيب أحداث وتطل غيرها وهكذا، ولا يعني سردي التماهي مع ذائقة كل محب للفن، فلكل نظرته وهواه. وإن كنت أتمنى الخروج من عباءة التحزب لفنان بعيداً عن مجمل الفن، فالعطاء مساحته رحبة، وهذا لا يخل بمكانة وتاريخ القامات الفنية الرائدة.

كنا نذهب إلى الطائف في رحاب أسرة اللواء حمدي حسن الياور والد برهان زوج شقيقتي أم حسن. وكان يسكن في منزل مستأجر بـ 500 ريال سنوياً، وكان الجميع يرى الإيجار غالياً (الله يرحم أيام زمان). كان المنزل خماسي الأضلاع، يطل من أربعة جوانبه على البساتين في المثناة. وكنا نمد أيدينا من النوافذ الخفيضة فنتناول ما تيسر مما يجري من فواكه في نهيرات صغيرة صنعها المطر الذي كان لا يتوقف، وحذفت بها الغصون وكأنها تقول لنا: تفضلوا البيت بيتكم.

كنت أيامها جاهلاً صغيراً عاده يربونه. وكان خالد حمدي، أخو زوج أختي برهان، يعمل في الدفاع في الطائف محاسباً. وكان بينه وبين طارق عبد الحكيم صداقة استمرت سنين، وترقت بزواج خالد حمدي من شقيقة طارق عبد الحكيم. طارق عبد الحكيم العميد، فقد كانت رتبته عميداً، وقد كانت قولاً على فعل في عالم الفن، فهو ولا شك عميد الألحان والمغني.

كنا نمر من أمام القشلة العسكرية ونسمع الطرب من طارق وعبدالله محمد. كان استماعي عابراً كمارّ يجذبه الإيقاع، وليس لي في الطرب ذلك الشأن لصغر سني ولا ناقة ولا حمل، بحكم أن الحمل صغير أيضاً. ولكن كانت تدهشني الفعالية بين موسيقى وصوت غناء وتفاعل جمهور كبير، وقد يكون ذلك الاهتمام من منظور الإنبهار لا أكثر، فقد كان من بعض عجائب الممنوع في ذلك الوقت.

ثم كبرت بعض الشيء، وكانت إذاعة جدة ليس بها من الموسيقى إلا مقدمة الأخبار وكأنها إيقاع عسكري. وبرز طلال مداح كأول نجم يلمع بقوة ما بين “وردك يا زارع الورد” التي كانت تعد من الغزل المسموح ولو كان متوارياً بخدود الورد وحمرته وعبقه وجماله.

تعينت في نجدة جدة. وكان شغفي بالفن بدأ ينضج. وكان طلال يسكن في شقة عند مدخل ميناء جدة. وكنت أذهب وصديق معي مشياً كعابي من باب شريف إلى هناك لنسمع ما عند طلال. وكان يمتلئ ذلك المجلس بنخبة الكتاب في ذلك العصر؛ منهم محمد رجب وأحمد صادق وحمدان صدقة وصالح جلال وخالد زارع ولطفي زيني. وأذكر من ضمن الأغنيات “مر في البيداء ظبي ربربي” سمعناها قبل أن تخرج للجمهور.

مضت الأيام، وظهر الفنان محمد عبده، وكان الظاهرة الثانية في عالم الإبداع. كان في مقتبل العمر فغنى “الخفيف الظريف”، ثم انطلق إلى القمم مع رفيق الدرب الفنان المبدع طلال المداح. وشهدنا تنافساً راقياً كبيراً بينهما: يبدع طلال فيتلألأ محمد.

كانا طلال ومحمد من الأماني الصعبة ولكنها مشروعة، التي يختزنها كل كاتب في ذاكرته، وعنوانها: متى يغني لي أحد هذان العملاقان. وبصراحة لم أكن في ذلك الوقت في وارد تلك الأماني، بحكم أني في بداية المشوار في ذلك الكار، فقد كانت نظرتي إلى تلك الأعمال من زاوية الإعجاب والتمتع بالكلام والألحان متوجاً بالأداء العبقري الأخاذ.

تعرفت على طلال باغر في منزل صديقنا المشترك في حارة النزلة فيصل بخاري، والذي كان يجيد العزف على العود. وكان يجمعنا سهر خفيف بين ليلة وأخرى. وكنت ألمح في طلال باغر سجايا فن لا ينقصه إلا الإعلان. وفاجأني يوماً وقال: عملت لطلال لحنين كان أحدهما “غريب منك”.

تعينت ضابطاً في مرور جدة. وكنت ملازماً، وترقيت إلى نقيب. ودعوت محمد إلى حفل ترقيتي، وجاء وغنى وأطرب للصباح “جبا من وافي إلى محب”.

كان أول لقاء بمحمد عبده في أبها في القرعة، وكان ذلك في بداية رحلته الفنية وتعرفنا. وكنت في رحلة عمل عابرة. وعندما كنت مدير مرور الطائف شاءت الأقدار يا دنيا نلتقي مع الأستاذ عبدالله مرشدي، الذي كان يعمل في نفس إدارة المرور. وكان المرشدي إضافة إلى الغناء والتلحين صاحب دعابات لطيفة، فجمعتنا الدعابات كما جمعنا العمل والفن. ولحن لي “قلب خالي من شري عذبوه أهل الهوى”. غناها محمد التوعري، ثم غناها يحيى لبان الذي غنى لي أيضاً عدة أعمال، ولكن اللبان كان الفن له كعابر سبيل؛ إذا هزه الشوق غنى وجس وسلطن.

وفي الرياض كنت أزور الموسيقار طارق عبد الحكيم بحكم الرحم الذي بيننا، وأيضاً الفن، ولحن لي “صابر ومتعذب” و”القلب ظالمني”. غناها عبدالله علام، وكنت أحضر عندما يلحن لبعض الكتاب وكان في مقدمتهم الشاعر (فالح).

وعندما كنت في جدة قال لي طلال باغر: عندك عمل لطلال؟ فقلت: أكيد، وكيف لا؟ وهذه خطوة عزيزة وله من عندي. وكانت أغنية “خطوة عزيزة” في قلبي لها معنى.
أكبرتها منك، حبيت تجمعنا
راعيت لي قدري، كبرت في نظري
ذي جيتك ع الراس، تكرم يا أغلى الناس
لو جيت في عمري

فلحنها وغناها طلال كأجمل ما يمكن. ثم غنى لي طلال “المشكلة” و”دنيا” و”أبو غرة على عيونه”، وكلها من ألحان باغر. وغنى لي من ألحان عدنان خوج “أنا طالب المعذرة”.

محمد عبده جار لي في حي النزهة، فمنزله لا يبعد عن منزلي إلا فركة كعب. أزوره بين حين وآخر، وقبل عدة أشهر قال لي: بعد كم شهر بأنقل إلى بيتي الجديد في المروة. قلت له: ليه يا محمد، خليك هنا، خليك وبلاش تفارق. قال: السبب هو الشديد القوي، الزحام أصبح على أشده فمشواري لعملي في المصنع بات صعباً. ولكن ترى البعد يزيد الود.

رغم علاقتي القوية مع محمد والصداقة الممتدة، تأخر تعاوننا العاطفي. ولا أعرف السبب إلا أني ربما لم يكن عندي ما يناسب مشواره. وإن انطلقنا في الأغاني الوطنية حتى بلغت بيني وبينه أكثر من 30 عملاً وطنياً، من “يا هلابك بالمعارك” و”يا الآهي” إلى آخر عمل “أنا السعودي”.

وذات يوم بعد أن أخذ فترة راحة عن الغناء، طلبني وقال: سأعود للغناء وذلك سيكون في لندن. إذا عندك نص نلتقي وأطلع عليه. أحضرت له نصين فاختار “جيتني مرحبا بك”. ثم بعد كم سنة قال لي: نحن في استراحة الليلة تسمر معنا وإذا لديك كلام هاته معك. وأحضرت “العين بحر”، فلحنها وغناها في كذا حفل.

وطالما العين بحر نتوقف عند شاطئها ونكمل المشوار بعد الغد إن شاء الله.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى