«يوميات لندن»
لندن، هذه المدينة التي تتقاطع فيها الأزمنة والألوان، لا تُفهم من ناطحات سحابها وحدها، بل تُقرأ في أسواقها، حيث تتكلم الأرصفة بلغات العالم، وتتناثر الحكايات بين رائحة التوابل وصدى الأغاني الشعبية.
ومن بين هذه الأسواق، تبرز ثلاثة كشواهد حيّة على التداخل العميق بين الشرق والغرب: سوق بورتوبيلو، وسوق شبردز بوش، وسوق الكامدن.
🧣 بورتوبيلو: حين تصافح الذاكرة الأشياء
يمتد سوق بورتوبيلو على طول شارع ضيق في منطقة نوتنغ هيل، تلك الحيّة الأنيقة التي اختلط فيها الأدب بالفن، والبوهيمية بالبريستيج.
في يوم السبت، يتحول السوق إلى متحف مفتوح: ساعات جيب عتيقة، آلات كاتبة ألمانية الصنع، كتب بجلد ممزق، ولوحات لا تُعرف وجوه أصحابها.
تنتقل من بائع هندي يشرح خصائص سجادة فارسية، إلى عجوز إنجليزي يحكي لك قصة إبريق شاي من الحقبة الفيكتورية، إلى شابة عربية تعرض مصاحف قديمة ورثتها عن جدها في دمشق.
بورتوبيلو ليس فقط سوقًا، بل عرضٌ حي لذاكرة الإمبراطورية، التي جاءت بكل شيء من كل مكان، ثم عرضته هنا الأرصفةُ للبيع، كأنما تختزن الذاكرة على هيئة بضائع.
🥘 شبردز بوش: الطبق الإفريقي على المائدة البريطانية
أما في غرب لندن، فـسوق شبردز بوش مختلف النكهة. هنا لا يُباع الزمن، بل يُطهى.
روائح الكسكس المغربي، والدجاج الكونغولي، والتشيباتي الصومالي، تختلط في الهواء لتصنع نوتة عطرية تُخبرك أنك في عاصمة الشتات الإفريقي والعربي.
في أحد الأزقة، تقف امرأة سودانية تُنادي على تمور العجوة وكركدي السودان بلهجة تقطر حنينًا، بجوار محل يبيع اللباس النيجيري التقليدي.
وفي طرف السوق، شاب جزائري يصيح بالفرنسية: “تمور جديدة من بسكرة!”
السوق هنا ليس فقط موضع بيع، بل ملتقى للحنين والهوية. لا تخلو الزوايا من الجدال عن أسعار تحويل العملة، وعن تأخر السفارات، وعن آخر أخبار الأوطان البعيدة.
شبردز بوش هو لسان حال من لم ينسوا جذورهم، رغم طول الإقامة وتعدد الجنسيات.
🧤 كامدن: حيث يتكلم الجدار
ثم نأتي إلى سوق كامدن، السوق الذي لا يمكن أن يُوصف بجملة واحدة. هو أقرب إلى مدينة داخل المدينة، فيها من كل شيء شيء: الموضة الغريبة، الأزياء القوطية، الفنون الرقمية، والنقوش الحنّاء من مراكش.
المتجول في كامدن يمر على محل يبيع جلابيات مغربية مصبوغة بالألوان، يقابله محل آخر لقمصان تُطبع عليها صور مالكوم إكس ومحمد علي كلاي.
ترى شابًا بريطانيًّا يعزف على العود، بجوار فتاة آسيوية تكتب أسماء الزبائن بالعربية والخط الفارسي.
كامدن هو السوق الذي اختلطت فيه ثقافة المهاجرين بثقافة الشارع البريطاني، ليولد نمط جديد، لا شرقيٌّ خالص، ولا غربيٌّ محض، بل “كامدنيّ” له ملامحه الخاصة.
🌍 أسواق الجاليات… شهادات على الحضور والصمود
هذه الأسواق ليست فقط أماكن بيع وشراء، بل أرشيف حيّ لحياة الجاليات.
فيها تُحكى قصص النساء اللواتي قدِمن لاجئات فصِرن صاحبات محلات، والرجال الذين حملوا توابل الوطن في حقائب السفر الأولى، فصاروا تجّارًا يحركون السوق.
وفيها أيضًا تنكشف تحولات المدينة: من “سوق الفقراء” إلى “وجهة السياح”، من “مخابز عربية صغيرة” إلى “مطاعم حلال فاخرة”، من “نداء الأذان الخافت” إلى “المسجد الذي صار معلَمًا”.
✍🏼 خاتمة: السوق مرايا المدينة
أسواق لندن ليست فقط زوايا للبيع، بل مرايا تعكس وجه المدينة في تنوعها وتناقضاتها.
هي مشاهد تُروى فيها حكاية المهاجر الذي بحث عن الحلال، وبنى ركنًا في السوق ليُسمع صوته.
وفي هذه الأسواق، تختلط اللغات، ولكن تفهم الأرواح بعضها البعض.
لندن تتكلم، نعم، لكن أصدق ما فيها: أسواقها.






