لازال الرئيس ترمب يمضي في سياساته المتناقضة والهجومية، فهو يخوض المعارك في كل صوب ومنحى، لا يكل من الصراعات ولا يمل من التصريحات. فهو -حسب قاعدة بيانات “فاكت تشيكر” لصحيفة واشنطن بوست- أصدر ترمب أكثر من 30,000 تصريح علني مختلف، وذلك خلال فترة رئاسته الأولى، وربما أضاف لها مئات التصريحات في السبعة أشهر التي مضت من الفترة الثانية. كثير من هذه التصريحات وُصِفَ بأنها مبالغ فيها أو غير صحيحة، فهو سينهي الحروب في ساعات ويريد أن يكون رجل السلام بالقوة.
فبشأن أوكرانيا، كل ما بين فترة وأخرى يتغير توجهه، مرة بوتين صديق وأخرى لا، هو انخدع به، وكذلك بالنسبة لزيلينسكي. ولكن الشيء الذي لا يتغير هو الخطاب عن إسرائيل. فلم يكتف بأن يكون المغرم بإسرائيل، ولا أحد يمنع الحب فالقلب وما يهوى، ولكن هو رئيس أكبر دولة في العالم وتصرفاته كرئيس المفروض أن تكون لها علاقة بالمصالح، وليس لها علاقة بالشغف. ولكن يمكن عيون الإسرائيليين تسلب لب كل رئيس أمريكي من حيث يدري ولا يدري.
والشهادة لله، عيون الأمريكان متنوعة ما بين العسلية والخضراء والزرقاء، فلو اكتفى بها لكان أجمل، والأقربون أولى بالمشغوف. أما العين الحمراء فهي فقط عند الإدارة الأمريكية، لا يستعملونها إلا عند الحديث مع العرب والمسلمين بالذات. أما عند الحديث عن إسرائيل، فهنا تظهر العيون التي في طرفها حور وتذبل شوقًا وتسلهم وكأنها تقول: تدلل وأمر، ما لك إلا حلالك. و”حلاله” هذه تأتي من ظهر المظلومين، وبالذات الشعب الفلسطيني.
ترمب أول خطاياه نقل سفارة أمريكا إلى القدس في فترته الأولى، ويبدو في هذه الفترة ربما ينقل البيت الأبيض إلى تل أبيب. رق قلبه وترقرقت الدموع في عينيه عندما رأى الرهينة الإسرائيلي وضلوعه بارزة من الجوع، ولم يهتز له ولسفيره الممثل لتل أبيب أكثر من أمريكا جفن، ولم يرق لهما قلب لأجل آلاف الفلسطينيين الذين لم يعد لهم ضلع حتى يبرز، فهم يموتون جوعًا بإصرار وتجويع من نتنياهو وزمرته المتطرفين.
آخر ما رشح هو ما سربته الواشنطن بوست: أن ترمب لديه خطة وصاية على قطاع غزة لمدة عشر سنوات، لجعلها ريفييرا أخرى وسيخلي غزة من سكانها. طبعًا وين يذهبون وكيف يعيشون خارج أوطانهم؟ فهذه لا أهمية لها، ومن شب على شيء شاب عليه. فكأني بالبيت الأبيض يكرر فعله الأسود من عدة قرون، فقد تعاملت الولايات المتحدة مع السكان الأصليين من الهنود بأساليب متنوعة تضمنت الإبادة الجماعية، والتهجير القسري، والإبادة الثقافية، بما في ذلك تأسيس المحميات وإرسال الأطفال لمدارس داخلية قسرية هدفت هذه السياسات إلى تقليص عدد السكان الأصليين وحصرهم في أراضٍ محددة، وإضعاف ثقافتهم وسيادتهم، وهو ما لا يزال يؤثر على مجتمعاتهم حتى اليوم.
فقد نفذت الولايات المتحدة عمليات إبادة جماعية ضد السكان الأصليين خلال الحروب الأمريكية الهندية، مثل مذبحة “رمال كريك” عام 1864. أما الترحيل القسري، فقد تم ترحيل السكان الأصليين قسرًا من أراضيهم الأصلية إلى محميات معينة بهدف تقليص أعدادهم وحصرهم في مساحات محددة.
عموماً، تعاملت أمريكا مع السكان الأصليين تاريخيًا بالترحيل القسري، والحروب، والمذابح. ومن ذلك ما حصل فيما سُمي “درب الدموع” عام 1838، حيث أُجبرت قبيلة الشيروكي على السير مئات الكيلومترات، ومات منهم آلاف بسبب الجوع والبرد والمرض. وحدثت مجازر مثل مجزرة “ساند كريك” (1864) ومجزرة “ووندد ني” (1890)، حيث قُتل مئات المدنيين من النساء والأطفال.
وفي عام 1924 بدأت الحكومة الأمريكية الاعتراف بحقوقهم ومنحتهم الجنسية الأمريكية. الوافدون الجدد والمشردون من أصقاع أراضي العالم يتكرمون بإعطاء سكانها الأصليين الجنسية!
يبدو أن الإدارة الأمريكية حنَّت للماضي القديم وتريد الآن أن تعيده وتتلذذ به على حساب شعب يُمارَس ضده الظلم منذ 80 عامًا، وتريد أمريكا أن تزيد مساهمتها في الإسراف في عمل كل ما يضير وينال من الفلسطينيين. فهي لم تقصر في الممانعة في كل ما قد يصب في مصلحة الفلسطينيين، فحرمتهم أخيرًا من إيصال صوتهم إلى العالم، فمنعت منحهم تأشيرات إلى أمريكا وكأنها الحاكم بأمره. فكل الأعراف لا تعطي الحق لصاحب المقر أن يمنع وفدًا من الحضور.
ما هذا الاستبداد والظلم! أيضًا وبخت الدول التي اعترفت أو اعتزمت الاعتراف بدولة فلسطين. وأصدرت عقوبات على قضاة في المحكمة الجنائية. وهذا منتهى الغرور والجنوح عن الحق، مما يتنافى مع النواحي الإنسانية والأخلاقية. وهذا ما جعل مندوب إسرائيل في الأمم المتحدة يقول وبكل وقاحة: ما همني أي دولة طالما معي أمريكا.
هل يستطيع العالم أن يفكر مجرد تفكير بنقل مقر الأمم المتحدة إلى دولة محايدة مثل النرويج؟ إن تعامل أمريكا ذا الوجهين والكيل بمكيالين مختلفين على نفس الحالة، يجعلني أختم مقالي ببيتين من قصيدة نبطية للشاعر نايف أبا العون:
دامك يا بوجهين شين وقوي عين
سكرت عنك أذني وغمضت عيني
طايش ومتكبر ويكفيك بيتين
ولاني موضح ويش بينك وبيني.



