كيف يمكن أن تنتشر كليات التربية في أكثر من ثلاثين جامعة حكومية، وتضم آلافًا من أعضاء هيئة التدريس، ثم تبقى خارج قلب التحول في السياسات والشراكات الوطنية ؟
إن هذا الغياب لا يمثل مسألة إجرائية فحسب، بل هو قضية استراتيجية وطنية تتعلق بقدرة المملكة على استثمار رأس مالها الفكري في مشروعها التعليمي.
لقد أثبتت التجارب العالمية أن غياب كليات التربية عن قلب المشهد يعني فقدان منظومة التعليم لبوصلتها الفكرية.
فالرصيد العلمي الذي تختزنه هذه الكليات ليس ملكًا للجامعة وحدها، بل هو ثروة وطنية ينبغي استثمارها في التخطيط والتنفيذ والتقويم، والمشاركة في قيادة التحول.
هذه الإشكالية ليست خاصة بالسياق السعودي، فقد واجهتها نظم تعليمية متقدمة، لكنها حُسمت هناك بوضع كليات التربية في قلب التحول لتكون بيت الخبرة الوطني والصوت الأكاديمي المكمّل للجهات التنفيذية.
ففي فنلندا مثلًا، ترتبط كليات التربية بمجلس وطني يشرف مباشرة على السياسات التعليمية، لتصبح شريكًا أصيلًا في كل إصلاح تربوي. وعلى المنوال نفسه، أسندت سنغافورة إلى المعهد الوطني للتربية (NIE) مهمة قيادة إعداد المعلمين وربط البحث التربوي ببرامج التطوير المهني، وهو النموذج الذي استلهمته المملكة في مبادراتها الحديثة لإعداد المعلّم.
لكن هذا الحضور العالمي يكشف عن مفارقة محلية: فرغم انتشار كليات التربية وكثرة كوادرها، ما تزال خارج صناعة القرار التربوي، ومقيدة بأطر جامعية تقليدية تحدّ من فاعليتها الوطنية، وتفتقر إلى رؤية مشتركة بين الكليات المتناظرة.
وهو ما يجعل السياسات التعليمية لدينا أقرب إلى جزر منفصلة بدل أن تكون منظومة مترابطة، في وقت تمثل فيه رؤية 2030 وبرنامج تنمية القدرات البشرية فرصة سانحة لتكامل الأذرع كافة، واستثمار الإمكانات الكامنة في هذه الكليات لدعم التحول التعليمي.
وللاستفادة من هذه الفرصة، يمكن رسم خارطة طريق تعيد لهذه الكليات دورها الطبيعي في قلب المشروع الوطني عبر ثمانية مسارات مترابطة:
١. صناعة السياسات التربوية:
تفعيل دور كليات التربية كمراكز فكرية وطنية تنتج مذكرات سياسات تحليلية مبنية على البحث العلمي، وتقدم لصانع القرار بدائل وخيارات مدروسة. ويضمن ذلك اتساق المبادرات التعليمية مع المستهدفات الوطنية وتفادي تضارب الجهود أو تكرارها. وبهذا تصبح الكليات شريكًا في رسم الخيارات لا مجرد منفذ للتعليمات.
٢. الحوكمة الوطنية لكليات التربية:
إيجاد آلية تنسيقية وطنية تجمع عمداء الكليات مع ممثلي وزارة التعليم وهيئة تقويم التعليم والتدريب ، والمعهد الوطني للتطوير المهني التعليمي، والمركز الوطني لتطوير المناهج. وتهدف هذه الآلية إلى صياغة رؤية استراتيجية موحدة وتحديد الأولويات وتعزيز التكامل بين البحث والتنفيذ. وبذلك تنتقل الكليات من وحدات متفرقة إلى قوة وطنية فاعلة تسهم في قيادة التحول.
٣. البحث والتطوير والابتكار التربوي:
تحويل كليات التربية إلى مراكز وطنية للبحث والتطوير التربوي يوجّه مشروعاتها نحو أولويات التحول مثل إعداد المعلم، التعليم المدمج، وتحسين نواتج التعلم. وبذلك يتحول البحث من إنتاج معرفي نظري إلى حلول عملية قابلة للتطبيق تسهم في تطوير التعليم وتعزز مسارات التحسين المستمر.
٤. بناء الهوية التربوية وتكوين المعلم:
يمثل هذا المسار جوهر رسالة كليات التربية وأساس وجودها. فهي الجهة الوطنية المؤهلة لصياغة هوية تربوية تعكس قيم المجتمع وتترجمها في نموذج معلم يجمع بين المعرفة الأكاديمية والجدارات المهنية والقيم الوطنية. واستعادة هذا الدور هو ضمان لتكوين معلم قائد للتغيير في المدرسة والمجتمع، وهي مهمة لا يمكن أن تضطلع بها أي جهة أخرى.
٥. التنمية المهنية المستدامة لشاغلي الوظائف التعليمية:
تشكل كليات التربية الذراع الوطنية الأقدر على قيادة برامج التطوير المهني لشاغلي الوظائف التعليمية في الخدمة، من معلمين وقيادات مدرسية ومختلف الكوادر التربوية. ويتيح انتشارها الجغرافي تقديم برامج نوعية تستجيب للاحتياجات التي تكشفها المشاريع الوطنية والاختبارات المعيارية والرخصة المهنية. كما تتيح مواكبة المجالات الحديثة كالذكاء الاصطناعي والمهارات الرقمية، في تكامل مع الجهات الوطنية المعنية.
٦. مراكز التميز في الأولويات الوطنية:
يمكن لأقسام نوعية مثل التربية الخاصة والطفولة المبكرة أن تتحول إلى مراكز تميز وطنية تقدم أدوات تشخيص حديثة ومناهج تدخل وبرامج تدريب مبنية على البحث العلمي. ومع قابلية التوسع لتشمل مجالات أخرى ذات أولوية وطنية كالموهبة، والتحول الرقمي في التعليم، تصبح هذه الكليات مرجعًا وطنيًا في قضايا محورية تسهم في تحسين الخدمات ورفع نسب الالتحاق وتعزيز جودة المخرجات.
٧. الشراكات التنفيذية والتأثير المجتمعي:
تتجاوز قيمة كليات التربية حدود القاعات الدراسية لتصبح منصات للتجريب والابتكار ونقل الممارسات العالمية إلى السياق المحلي. ويتحقق ذلك عبر شراكات عملية مع المدارس، ومبادرات مجتمعية داعمة للتعليم، وتعاون مع القطاع الخاص لربط البرامج الأكاديمية باحتياجات سوق العمل. ومن خلال هذا المسار تتحول الكليات إلى حلقة وصل حقيقية بين البحث والميدان.
٨. بناء قدرات أعضاء هيئة التدريس كميسّرين للتغيير:
إن نجاح التنمية المهنية يعتمد على وجود مدربين وطنيين مؤهلين. وهنا يأتي دور كليات التربية في تمكين أعضاء هيئة التدريس ليكونوا ميسّرين للتغيير قادرين على تنفيذ البرامج بجودة واستدامة. وبهذا يشكلون القوة المنفذة لمسار التنمية المهنية المستدامة، ويجعل هذا الاستثمار في رأس المال الفكري الوطني برامج التطوير أكثر رسوخًا وارتباطًا بالتحول التعليمي.
إن استعادة الدور الأصيل لكليات التربية لم يعد ترفًا أكاديميًا، بل هو شرط لنجاح مشروع التحول التعليمي.
فهي البوصلة الاستراتيجية التي توجه التعليم نحو المستقبل، وتمتلك الرصيد الفكري القادر على تحويل الطموحات الوطنية إلى سياسات وممارسات مستدامة.
وبعودتها إلى قلب المنظومة، تستعيد المملكة ذراعها الأكاديمي الأقوى في تكوين المعلم وصياغة السياسات وابتكار الحلول التعليمية. وبهذا تتحول كليات التربية إلى بيت الخبرة الوطني المساند والموجه لمسار التحول التعليمي.
• أستاذ القيادة التربوية
• المدير العام للتعليم بمنطقة مكة المكرمة – سابقاً






بارك الله لنا في علمك كما تبارك لنا عملك.
ان جميع ما ذكرت سعادة الدكتور احمد هو إطار عام لدليل استرشادي للوزارة أشرت فيه إلى جميع الاطر والاسس لرفع كفاءة النظام التعليمي بما يحقق غايات التعليم واهدافه.
ولا يمكن أن تحقق بصورة واضحة ومتميزة مادام استبعد أصحاب العلم والمعرفة. وعلى الرغم من وجود فجوة
في ذلك . لازالت الوزارة توسع من هذه الفجوة باستبعادها لكليات التربية كونها هي العقل المحرك في العملية التعليمية من نظريات معرفية وسلوكية و عمليات ادارية وممارسات…….
أحسنت يادكتور أحمد … نفع ﷲ بك.
وكذلك حينما يتحدثون عن ربط الكليات والجامعات بسوق العمل بنسبة ما …. فأين ربط هذه الكليات المتخصصة في التربية به ؟