«يوميات لندن»
لم تعد المتاحف وحدها حاضنة الفن في لندن، فالرصيف نفسه صار لوحة، والجدران أصبحت شاشات تعبّر بها المدينة عن ذاتها.
وفي زوايا الأحياء، وتحت الجسور، وعلى حواف الأبنية القديمة، يظهر فن الجرافيتي كنبض عصريّ للمدينة، يصرخ أحيانًا، ويهمس أحيانًا، لكنه لا يصمت أبدًا.
الجرافيتي، في ظاهره، مجرد رسم أو كتابة على الجدران.
لكن في شوارع لندن، هو لغة ثانية يتكلم بها المغمورون، والمهمَّشون، والحالمون، والناقمون، والفنانون الذين اختاروا جدارًا بدلًا من صالة عرض.
بانكسي: توقيع بلا وجه
حين يُذكر فن الجرافيتي في لندن، يقفز إلى الذهن فورًا اسم بانكسي (Banksy)، الفنان الشبح، الذي لم يُعرف وجهه حتى الآن، لكنه أصبح أشهر من كثير من الوجوه.
في أحد أحياء شورديتش شرق لندن، يظهر رسم لطفلة تُمسك بلونة حمراء على وشك أن تُفلت منها.
بسيطة هي الصورة، لكنّها تقول الكثير: عن الفقد، عن الأمل، عن براءة تتسرب.
وفي جدارية أخرى، شرطي يعانق متظاهرًا، في مشهد ساخر من السلطة والمقاومة.
هذه ليست رسومًا عشوائية، بل فلسفة على الجدار.
الرصيف كمنبر احتجاج
في أزقة بريكستون وهاكني، تنتشر رسومات تعكس نبض المجتمعات المهاجرة.
وجوه إفريقية ملوّنة بألوان فاقعة، كتابات بالعربية تُمجّد الحرية، لافتات بالبنغالية والبولندية، ورسائل ضد العنصرية والفقر.
الجدران هنا تُذكّر العابرين بأن المدينة ليست مجرد واجهات فاخرة، بل تحوي طبقات من الألم، والكفاح، والوجود المتعدد.
في نفق “ليكي ستريت” (Leake Street Tunnel)، الذي يُعرف بـ نفق بانكسي، يُسمح للفنانين الهواة أن يتركوا بصمتهم بحرية.
يمر الزائر من ظلام النفق، فإذا بالجدران تتوهّج برسومٍ حيّة، وكأنها شاشة عملاقة تنبض بالتعبير.
فن أم فوضى؟
سؤال قديم يُطرح:
هل الجرافيتي فن يُعبّر عن الحرية، أم فوضى بصرية تُشوّه المدينة؟
الجواب في لندن ليس واحدًا.
في أحياء راقية، يُمسح الجرافيتي سريعًا حفاظًا على “النظافة البصرية”.
أما في أحياء العمال والمهاجرين، فيُحتفى به كصوت صادقٍ لمن لا صوت له.
وقد اعترفت البلدية في السنوات الأخيرة بقيمة بعض الجداريات، وبدأت في حمايتها، بل وتضمينها في الخرائط السياحية، خاصة في شرق المدينة.
إنه تحول من رفضٍ إلى اعتراف، من جرمٍ إلى ذوق، من جدار مُهمَل إلى معرض مفتوح.
عندما يكتب الجدار شعرًا
ليس كل الجرافيتي صورًا.
بعضه نصوص قصيرة، شِعرية، تقتنص لحظة تأمل وسط الزحام.
عبارات مثل:
– “الحب لا يحتاج إلى جواز سفر”
– “كن لطيفًا، فالجميع يخوض معركة لا تراها”
– “الصلاة ثورة هادئة”
– “الذاكرة لا تُمحى بالدهان”
هذه العبارات، المكتوبة أحيانًا بخط رديء، تُوقظ فيك سؤالًا… وربما دمعة.
المدينة تتكلّم
في النهاية، يمكن القول إن فن الجرافيتي في لندن ليس مجرد تزيين جدران، بل هو المدينة تتكلّم بلسان الشارع.
صوتُ الذين لم تُكتب أسماؤهم في الصحف، ولا تُعرض أعمالهم في المزادات.
فنّ يخرج من الهامش، ليقول: أنا هنا، رأيي مهم، جُرحي لا يُخفى، وحلمي لا يُقمع.
لندن، بهذا المعنى، ليست فقط عاصمة للفن الكلاسيكي، بل أيضًا متحف مفتوح لفنون الشارع، حيث كل جدار صفحة، وكل رصيف قصيدة، وكل نفق مرآة لروح المدينة.






