يُميَّز بين نوعين من المشتغلين بالتاريخ: الأراخ والمؤرخ. فالأراخ ليس سوى حافظٍ للوقائع، يرددها كما وردت دون وعي أو نقد. هو “ناظر بلا نظر”، ينقل ولا يعقل، يقتصر دوره على إعادة الماضي كما هو، سردًا سطحيًا أشبه بالمواد الخام. والأراخيون السرديون يشبهون سعاة البريد؛ ينقلون الأخبار من جيل إلى آخر دون تحليل أو تفسير، فيشوّهون المعنى ويتركون التاريخ ميتًا، بلا روح ولا دلالة. وكما وصفهم جاك لوغوف، فإنهم يقتاتون من التاريخ ليقدّموا “حساءً تاريخيًا” غثًّا وفاسدًا، ضعيف القيمة وقليل النفع.
في المقابل، المؤرخ يتجاوز وظيفة النقل إلى فعلٍ نقدي وفكري. فهو يدرس الإنسان في ماضيه، ويعيد قراءة الوقائع من خلال التحقيق والمقارنة وتحليل الأدلة، رابطًا بين الأسباب والنتائج، وكاشفًا عن الدوافع العميقة للأحداث. عنده لا يُستعاد الماضي كوقائع جامدة، بل يُبعث حيًا، ينبض بالحياة ويضيء الحاضر ويعين على استشراف المستقبل.
التاريخ بهذا المعنى ليس أرشيفًا مغلقًا، بل عملية مستمرة من التفاعل بين الحاضر والماضي. النصوص التاريخية لا تقول الحقيقة النهائية، بل تساهم في إنتاجها بما تكشفه وما تخفيه. ومن هنا لا يكون المؤرخ عبدًا للوثائق، بل عقلًا ناقدًا يفكك النصوص ويعيد بناءها، فينتقل من “نص الحقيقة” إلى “حقيقة النص”.
إن الفرق الجوهري بين الأراخ والمؤرخ هو الفرق بين تاريخ ميت لا يضيف شيئًا، وتاريخ حي يولّد المعنى ويغذّي الوعي. فالمؤرخ الحق ليس مجرد راوٍ، بل صانع وعيٍ، يفتح من الماضي أبوابًا لفهم الحاضر وبناء المستقبل.

