المقالات

رحلة الطالب بين المدرسة والجامعة وسوق العمل (١-٣)

السلسلة: يا ثوبي يا ساترني، يا بيتنا يا ساترنا

يا ثوبي يا ساترني، يا بيتنا يا ساترنا… مثل شعبي قديم، لكنه اليوم يصف حالنا مع التعليم والعمل. فالثوب هو المدرسة والجامعة وسوق العمل، والبيت هو المنظومة كلها التي تضم التعليم والموارد البشرية. وحين ينظر الطالب إلى ثوبه بعد خمسة عشر عامًا من الدراسة، يكتشف أنه مثقوب لا يستره، وحين يتأمل البيت يراه بلا جدار يحميه.

جيل الأمس كان يرى التعليم رسالة. يكتب الإملاء كأنه في منازلة لغوية، ويكتب الإنشاء كأنه يجاري الشعراء. كان البيت كله يعيش حالة طوارئ وقت الاختبارات؛ تُغلق الشاشات وتُفتح القلوب للعلم. التفوق كان شرفًا يُنتزع لا درجة تُشترى. أسئلة الصف السادس آنذاك كانت تفكك المفاهيم وتعيد تركيبها، وكان الخط والتعبير مادّتين تصقلان العقل والروح: الأولى تُعلّم النظام والوضوح، والثانية تُعلّم القدرة على صياغة الفكرة والدفاع عنها.

أما اليوم، فالطالب يبدأ ثلاث سنوات في رياض الأطفال، ثم أربع سنوات تأسيس أولى بنظام التقييم المستمر، يمر من صف إلى صف بلا امتحان حاسم ولا وقفة تقييم حقيقية. سبع سنوات كاملة بلا محكّ، ثم اثنتا عشرة سنة في التعليم العام، تتحول كثيرًا إلى ملخصات و«ملازم». المعلم يحدد المرجع والسطر الذي سيأتي منه السؤال، والاختبارات تتحول إلى «صح وخطأ» أو «اختيار من متعدد»، تقيس التذكر اللحظي أكثر مما تقيس الفهم. الأخطر أن مادتي الخط والتعبير أُلغيتا، فضاع على الطالب وسيلتان كانتا أساسيتين للتفكير والتواصل. يدخل الجامعة بخط لا يُقرأ وجملة لا تُفهم، بينما يرى أبوه الأستاذ الجامعي أن خمسة عشر عامًا من التعليم لم تمنحه القدرة على كتابة تقرير أو صياغة فكرة.

هنا تتجلى أزمة الثقة. شهادة الثانوية لا تُحسب في القبول الجامعي إلا بثلاثين في المئة، بينما سبعون في المئة تُضاف لاختبارات القدرات والتحصيلي. الرسالة واضحة: ما تعلمته في المدرسة لا يكفي. ثم تأتي «السنة التحضيرية» لتؤكد ذلك؛ قُدمت جسرًا بين العام والجامعي، لكنها سرعان ما تحولت إلى منظومة كاملة لها مقرراتها وموظفوها. وحين صدر قرار إلغائها لم تُلغَ فعليًا، بل أُعيد توزيع مقرراتها داخل التخصصات، فأصبح الطالب يكرر ما تعلمه بعبء أكبر.

وفي الجامعة يدرس الطالب أربع سنوات أو خمسًا، فإذا أراد أن يصبح معلمًا قيل له إن شهادته لا تكفي، وأن عليه أن يخضع لسنة تدريبية ورخصة مهنية. هذا اعتراف ضمني بأن التعليم النظري الطويل لم يكن كافيًا، وأن الشهادة وحدها لا تصنع الكفاءة. ثم يصل إلى سوق العمل عبر برامج كـ«تمهير»، فيُستقبل ستة أشهر بتمويل حكومي جزئي لراتبه، لتستفيد الشركات من جهده بأقل تكلفة، ثم يُترك بلا عقد دائم ولا خبرة متراكمة. وهنا لا تعود الثقة مفقودة بين التعليم العام والجامعي فقط، بل تمتد إلى سوق العمل الذي يتعامل مع المبادرات الوطنية كوسيلة مؤقتة لتقليل تكاليفه، لا كجسر حقيقي لاستقطاب الكفاءات.

لكن المفارقة أن سوق العمل ذاته لا يعرف ما يريد بدقة. كثيرًا ما يُقال إن الطلاب يجب أن يُجهَّزوا لسوق العمل، بينما الحقيقة أن السوق نفسه لا يملك خطط استقطاب واضحة تمتد حتى نهاية العام. لا يعرف بالضبط كم يحتاج من مهندسين أو معلمين أو محللي بيانات بعد عامين أو ثلاثة. وهكذا تبقى العبارة المتكررة «نجهزهم لسوق العمل» أقرب إلى خدعة مريحة تُسكت النقاش، لا خطة واضحة تُوجه التعليم.

الأزمة الأعمق هي غياب التغذية الراجعة بين المراحل. من يراجع من في حال التعثر؟ وبأي صلاحية؟ وتحت أي نظام؟ الطالب الذي يتعثر في مهارة أساسية في الصف الرابع لا يجد من يرفع صوته ليعيد المراجعة إلى الصفوف السابقة. الجامعة التي تكتشف ضعف طلابها في الكتابة الأكاديمية لا ترسل إشارات منهجية إلى المدارس لتصحيح جذور المشكلة. وسوق العمل الذي يشكو من نقص المهارات العملية لا يمد الجامعات ببيانات دقيقة تعينها على سد الفجوات. كل طرف يرمي الكرة في ملعب الآخر، في مشهد أشبه بـ«حرب باردة» بين أطراف المنظومة: اتهامات متبادلة بلا آليات مراجعة، تراشق بلا تغذية راجعة، كأنما الكل يتفرج على الشرخ وهو يكبر.

وتخيل أن الأساس يبنى ولا يُصان، ويظل الشرخ يتسع سنة بعد سنة حتى يصل إلى درجة لا يمكن معها العلاج. هنا لا تنفع ترقيعات ولا تجميلات؛ لأن البناء كله قد تشقق، وأي محاولة متأخرة لا تصلح ما فسد من الأصل.

وفي البيت نسمع المفارقة المؤلمة: أبٌ معلم يرى أبناءه في الجامعة ضعفاء في أبسط المهارات، وأبٌ أستاذ جامعي يرى أبناءه في المدارس عاجزين عن القراءة والكتابة المتينة، وصاحب عمل يرى خريجين يحملون شهادات لا تسد حاجته. الكل يردد المثل الشعبي: لا تعايرني ولا أعايرك، دا العيب طايلني وطايلك.

ليست الأزمة في محطة واحدة، بل في المسار كله: من التعليم العام إلى الجامعي إلى سوق العمل. كلها محطات بلا مسطرة قياس واحدة، بلا تغذية راجعة متصلة، بلا ثقة متبادلة. والنتيجة: ثوب مثقوب وبيت مكشوف.

(يتبع في الجزء الثاني…)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى