المقالات

غرفة حالة التعليم والتدريب… من البيانات إلى الاستشراف

تُعَدّ المنصة الوطنية «غرفة حالة التعليم»، التي أطلقتها هيئة تقويم التعليم والتدريب، إنجازًا رائدًا في مجال البيانات التعليمية؛ إذ تختزن أكثر من 20 مليار نقطة بيانات، وتتيح مئات المؤشرات التحليلية عبر لوحات تفاعلية تعكس واقع التعليم بموضوعية وشفافية.

وفي جوهرها، تمثل هذه المنصة ثروة وطنية هائلة ينبغي استثمارها بكفاءة قصوى لخدمة متطلبات الحاضر واستشراف المستقبل.

غير أن التساؤل الذي يفرض نفسه هو: هل تكفي هذه المنصة وحدها لتحقيق القفزة الاستراتيجية المنشودة للتعليم في المملكة؟

أم أن الحاجة قائمة اليوم لاستكمال هذا المنجز الكبير بإطار مؤسسي مستقل يحوِّل وفرة البيانات إلى معرفة مؤسسية تصنع القرار، وتوجّه السياسات، وتستثمر الموارد بكفاءة أعلى؟

لم تعد البيانات التعليمية مجرد أرقام في تقارير، بل أصبحت الحلقة الأولى في سلسلة تبدأ بالبيانات الخام، ثم تتحول إلى معلومات منظمة، وتنتهي بمعرفة مؤسسية تراكمية قادرة على صياغة السياسات وصناعة المستقبل.

فوفرة البيانات لا تكسب قيمتها من حجمها أو تنوعها، بل من قدرتها على التحول إلى معرفة موجِّهة للقرار ومرشدة لتوجهات التعليم.

في المملكة، تتوافر منظومة واسعة من أدوات القياس الوطنية والدولية، وبرامج كبرى مرتبطة برؤية 2030 وبرنامج تنمية القدرات البشرية، تشمل: الاختبارات الوطنية المعيارية مثل «نافِس»، واختبارات القدرات والتحصيلي، والرخص المهنية، والتقويم المدرسي باعتباره أداة محورية لضمان جودة المدارس، فضلًا عن الدراسات الدولية مثل PIRLS وTIMSS وPISA.

ومع ذلك، فإن الأثر التحويلي ما زال بحاجة إلى تعزيز، إذ غالبًا ما تتوقف السلسلة عند حدود جمع البيانات وتنظيمها، دون أن تكتمل إلى منظومة معرفية قادرة على صياغة السياسات ومتابعة أثرها.

فنتائج الاختبارات الوطنية – على سبيل المثال – تزداد قيمتها عندما تُدمج في قاعدة معرفية تُبنى عليها قرارات تطوير المناهج، وتصميم برامج تدريب المعلمين، وربط التمويل بخطط تحسين محددة. أما في حال غياب هذا التكامل، فإنها تبقى حبيسة التقارير دون أن تحقق أثرها المرجو.

والسؤال الجوهري هنا: كيف تتحول وفرة البيانات إلى معرفة مؤسسية مستدامة تعزز جاهزية التعليم لمستقبل أكثر تنافسية؟

إن الإجابة لا تكمن في تطوير مزيد من أدوات القياس – وهو دور أصيل تضطلع به هيئة تقويم التعليم والتدريب – بل في استكمال هذه الجهود بإنشاء مؤسسة وطنية مستقلة للاستشراف التعليمي، تقوم بدور خزانة تفكير (Think Tank) ترتبط مباشرة بمجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية، لتكون بيت خبرة وطنيًّا يحوِّل البيانات التعليمية إلى معرفة تحليلية عميقة وتوصيات استراتيجية تُسند صانع القرار.

وتتولى هذه المؤسسة بناء منظومة معرفية وطنية متكاملة، تجمع البيانات الوطنية والدولية – بما في ذلك الرخص المهنية، والتقويم المدرسي، وغرفة حالة التعليم والتدريب – لتُنتج سياسات مترابطة، وسيناريوهات مستقبلية، ونماذج إنذار مبكر تستبق التحولات الكبرى في التعليم.

ولن يقتصر دورها على التشخيص، بل سيمتد إلى بناء سيناريوهات استباقية ذات بعد وطني شامل، مثل:

• ماذا لو توسع التعليم الرقمي في المراحل المبكرة؟

• ماذا لو تحسنت كفايات المعلمين خلال فترة وجيزة؟

• ماذا لو أُعيدت هيكلة المناهج الثانوية لتلائم متطلبات الثورة الصناعية الرابعة؟

• ماذا لو أُعيد تصميم البرامج الجامعية لتستجيب لمهارات المستقبل؟

• ماذا لو تغيرت خريطة المهن بفعل الذكاء الاصطناعي والتحولات الرقمية؟

هذه ليست فرضيات نظرية، بل أدوات تخطيطية لتوجيه الموارد نحو المسارات الأكثر تأثيرًا.

وتكشف التجارب الدولية في فنلندا وإستونيا وكندا واليابان وكوريا الجنوبية أن الفارق الحقيقي بين الدول لا يكمن في حجم البيانات، بل في قدرتها على تحويلها إلى معرفة قابلة للتنفيذ وسياسات قابلة للقياس والمساءلة. فهذه الدول لم تكتفِ بجمع البيانات، بل حوّلتها إلى معرفة مؤسسية فاعلة.

ومن هنا، فإن نجاح المملكة لن يُقاس بوفرة البيانات وحدها، بل بقدرتها على إدارتها ضمن إطار مؤسسي مستقل يحوّلها إلى سياسات متكاملة وقرارات استراتيجية.

وقد يُثار تساؤل: لماذا لا تقوم الجهات القائمة حاليًا بهذا الدور داخل نطاق اختصاصها؟

والجواب أن هذه الجهات بالفعل تضطلع بمهام محورية في جمع البيانات وتطوير أدوات القياس وتنفيذ البرامج، غير أن غياب إطار وطني جامع يجعل جهودها تسير في مسارات متوازية أكثر من كونها منظومة متكاملة.

إن المؤسسة المقترحة لا تستهدف ازدواجية الأدوار، بل توحيد الجهود وربط مخرجاتها في صورة سياسات وطنية مترابطة واستشرافات استراتيجية تستجيب لأولويات الوطن وتحديات المستقبل.

إن إنشاء هذه المؤسسة لم يعد ترفًا، بل ضرورة وطنية لضمان استدامة التحول التعليمي، وتعزيز الجاهزية لمتغيرات المستقبل، وصناعة فرص جديدة للتنمية الشاملة في ظل رؤية 2030.

• أستاذ القيادة التربوية
• المدير العام للتعليم بمنطقة مكة المكرمة – سابقًًا

أ.د. أحمد بن محمد الزائدي

مدير إدارة التعليم بمنطقة مكة المكرمة سابقًا

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك رداً على سعد العنزي إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى