في المقال الأول رسمنا رحلة الطالب: خمسة عشر عامًا من التعليم تنتهي بثوبٍ مثقوب وبيتٍ مكشوف. يا ثوبي يا ساترني، يا بيتنا يا ساترنا. لكن الطالب ليس وحده من يعيش هذه الأزمة؛ فالمنظومة كلها غارقة في تكرار وتجزئة تجعل قراراتها أشبه برسائل تُدار بالحمام الزاجل، لا بمنظومة بيانات متصلة في زمن الرقمنة.
لدينا منصات رقمية عديدة: «نور»، «مدرستي»، أنظمة الجامعات، بوابات الموارد البشرية، التأمينات… على الورق تبدو كأنها شرايين تربط التعليم بسوق العمل. لكن عند الاقتراب، تراها جزرًا متفرقة. كل جهة تطلب من المواطن أن يملأ بياناته من جديد، رغم أن هذه البيانات محفوظة أصلًا لدى جهة أخرى. الطالب يُدخل درجاته، ولي الأمر يُدخل بيانات ابنه، الخريج يُدخل شهاداته، الموظف يُدخل تفاصيله… يا ثوبي يا ساترني، يا بيتنا يا ساترنا.
نحن نتعامل مع ملفات إلكترونية، لكننا نتحرك بروح الحمام الزاجل. المعلومة تنتقل ببطء، تُعاد كتابتها مرات ومرات، وتصل متأخرة إلى صانع القرار. بدل أن يرى الوزير لوحة حيّة تكشف له أين تراجع مستوى الرياضيات هذا الشهر، ينتظر تقريرًا يُرفع بعد أشهر. نحن في زمن السحابة الوطنية، لكننا نتبادل الرسائل وكأنها مربوطة في أجنحة الطيور. والأدهى أن الحمام الزاجل لا يطير فقط بين الوزارات، بل حتى داخل المنشأة نفسها. استُحدث منصب «سير العملية التعليمية»، وأُعطي صلاحيات ومكاتب وموظفين، ثم أُشغلت المنظومة كلها أسبوعيًا لتغذية هذا المنصب بالتقارير. المعلم يُدخل حضور طلابه في زمن الحصة عبر النظام، ثم يُطلب من رئيس القسم أن يجمع الأرقام ذاتها في ملف إكسل جديد، ثم تُلخص مرة أخرى في تقرير آخر. كأننا ندوّر نفس الحمام حول الساحة مرارًا، بينما كان يكفي «أمر حاسوبي» واحد بضغطة زر.
وعند المرور على التعليم العام، نجد أن الوزارة مشكورة، والمناهج مشكورون، قد أعدّوا لكل صف دراسي أهدافًا واضحة تُقاس بالاختبارات أو بالتقويم المستمر. لكن السؤال الأهم: من الذي يستطيع أن يجمع هذه النتائج، ويحلل المخرجات على المسطرة الوطنية، ويكشف مواضع القوة والضعف؟ قد ينجح الطالب في الرياضيات أو اللغة العربية بدرجة عالية، لكن هل تعني الدرجة أنه قادر على كتابة نص مترابط، أو حل معادلة أساسية، أو تفسير مفهوم علمي؟
وعند بوابة الجامعة تتعقد الصورة أكثر. نظام الاعتماد الوطني يشترط أن يكون متوسط درجات الطلاب فوق درجة النجاح، فإذا ارتفعت نسب الرسوب، تُوجَّه أصابع الاتهام إلى الأستاذ: أسلوبه، تقويمه، محاضراته، لا إلى جذور الفجوة التي تراكمت عبر سنوات الدراسة السابقة. فيضطر عضو هيئة التدريس لرفع الدرجات حتى لا يُحسب الخلل عليه. وهكذا تتحول الجودة إلى موسم قصير يتكرر كل أربع سنوات: ملايين تُصرف، مستشارون يُستقدمون، ملفات تُنسق وتُجمّل، والجامعات تنشغل بالوثائق أكثر من انشغالها بالمخرجات. الاعتماد في جوهره أداة مهمة، لكنه صار غاية بحد ذاته، وسوقًا يُضخ فيه المال والجهد، دون أن نرى أثرًا واضحًا على مستوى الطالب.
وعند نهاية السلسلة يظهر سوق العمل كمرآة كاشفة. كان يكفي أن تستدعي وزارة الموارد البشرية ووزارة التعليم بيانات التأمينات الاجتماعية ومنصات الرواتب لتعرف بدقة من توظف؟ بأي مسمى؟ في أي قطاع؟ كم راتبه؟ وهل عمله متناسب مع مؤهله؟ لكن بدل هذا الربط البديهي، يُلقى العبء كله على الجامعات. تُنشأ مكاتب للخريجين في كل كلية، وتُرسل استبيانات مطولة: أين تعمل؟ كم راتبك؟ هل أنت راضٍ عن تخصصك؟ بطبيعة الحال، كثير لا يردون: من لم يُوظف يتجاهل، ومن كره جامعته يعزف، ومن شغلته حياته لا يلتفت. ومع ذلك، تُبنى على هذه الردود الضعيفة مقارنات تُعلن أن الجامعة الفلانية خريجوها أسرع توظيفًا. ولا أحد يسأل: ما طبيعة الوظائف؟ ما مدى ملاءمتها للتخصص؟ ما مستوى الأجر؟ هل العقود مستقرة أم مؤقتة؟ إنها نسخة أخرى من الحمام الزاجل: بيانات دقيقة موجودة في قواعد الدولة، لكننا نصرّ أن نحملها في رسائل عابرة يكتبها الخريجون على عجل.
وهكذا يمضي الطالب في مسار واحد من الابتدائي إلى الوظيفة، لكن بياناته تتوزع بين جزر معزولة. المعلم يسجل، المدير يرفع، الجامعة تجمع، الوزارة تترقب، سوق العمل يشكو، وفي النهاية لا أحد يملك الصورة الكاملة. ومع غياب المسطرة الوطنية، يظل السؤال بلا جواب: من يقيم من؟ هل يقيم التعليم العام الجامعات، أم العكس؟ هل يقيم سوق العمل الخريجين، أم التعليم يقيم السوق؟ هل ترسل الجامعات تقاريرها لتُجمَّل وتُختم، أم لتصل صراحة إلى المدارس لإصلاح الخلل؟
الأرقام وحدها تكشف حجم الفجوة: لدينا ٤٢ جامعة، ومتوسط الأقسام في كل جامعة ١٩٥ قسمًا، أي نحو ٨١٩٠ قسمًا. تكلفة اعتماد البرنامج الواحد داخليًا تقارب ٧٠٠ ألف ريال، والفاتورة الإجمالية تصل إلى ٥٫٧ مليار ريال كل أربع سنوات. وهذا غير الاعتمادات الدولية ورسوم المستشارين التي تضيف مليارات أخرى. أما الوقت فحدث ولا حرج: أعضاء هيئة التدريس يخصصون ٣٠–٤٠٪ من وقتهم لهذه المواسم.
وفي المقابل، المملكة في المركز الرابع عالميًا في مؤشر الخدمات الرقمية (٢٠٢٤)، وقفزت ٢٥ مرتبة في مؤشر الحكومة الإلكترونية. نحن في قمة العالم رقميًا، لكننا في التعليم ما زلنا نمارس طقوس الحمام الزاجل: نكتب البيانات ونربطها بخيوط غير مرئية، ثم نعيدها بعد أن فقدت قيمتها.
الخلل لم يعد ماليًا فقط، بل مسّ الثقة ذاتها. خريج بمعدل ٣٫٨ لكنه ضعيف المهارة، وآخر بمعدل ٢٫٩ لكنه أصلب عودًا، أيهما نصدق؟ غياب المعيار الوطني جعل المعدلات أرقامًا بلا معنى. وبينما يلوم التعليم العام الجامعات، وتلوم الجامعات المدارس، ويشكو سوق العمل من الخريجين، لا توجد قناة واحدة للتغذية الراجعة. المنظومة كلها أشبه بـ«حرب باردة»: اتهامات متبادلة بلا مواجهة، بيانات متطايرة بلا صراحة، جزر متباعدة بلا جسور.
إن أخطر ما في المشهد ليس فقط الكلفة ولا التعقيد، بل أننا نبني بيتًا من دون صيانة، ونترك الشرخ يتسع عامًا بعد عام. في البداية يمكن ترقيعه، ثم يصبح فجوة، ثم ينتهي إلى انهيار لا ينفع معه إصلاح. لقد حان الوقت أن ننتقل من الحمام الزاجل إلى لغة العصر؛ من جزر المنصات إلى منظومة متصلة؛ من مؤشرات متأخرة إلى تغذية راجعة حيّة. في المقال الثالث سنضع هذه الرؤية على الطاولة، عبر مشروع «بصيرة»… المسطرة الوطنية التي يمكن أن تعيد الثوب إلى ستره، والبيت إلى حمايته.
(يتبع في الجزء الثالث…)






