في قراءة التاريخ، كثيرًا ما تُرتكب خطيئة الفصل بين الأحداث وكأنها جزر معزولة، أو وحدات جغرافية مغلقة، بينما الواقع التاريخي أعمق وأكثر تشابكًا؛ إذ تتداخل الوقائع في دوائر متّصلة، يتولد بعضها من بعض، وتُعيد الأطراف أحيانًا تشكيل المركز، وتُحدث المراكز ارتدادات واسعة في الهوامش.
هذا المنهج يبرز بوضوح في تتبّع العلاقة بين الإسلام والصين، التي لم تُبنَ على غزو أو توسع عسكري، بل تشكّلت ضمن فضاءات ناعمة كالطرق التجارية، والرحلات العلمية، والتبادل الثقافي. فلم يدخل الإسلام الصين بحدّ السيف، بل وصلها عبر الصحابي سعد بن أبي وقاص الذي دخل مدينة “قوانزو” في عهد أسرة تانغ، مؤسسًا بذلك أول لبنة للجاليات الإسلامية ومسجد “الذكرى الطيبة” الذي لا يزال قائمًا.
ومن تلك البذرة، نمت دوائر حضارية متسلسلة: أسواق تجارية، ومدارس فقهية، ومراكز علمية، حتى تولّى بعض المسلمين وظائف حساسة داخل الجهاز الإداري الصيني. لم يكن هذا مجرد اندماج ديني أو ثقافي، بل كان نموذجًا لـ “الحضور الفاعل دون هيمنة”، ولـ “الاختلاف المحترم دون قطيعة”.
غير أن هذا التفاعل لم يسر دومًا في اتجاه واحد. فمع سقوط بغداد على يد المغول عام 1258م، بدا أن خط الحضارة الإسلامية انكسر، لكن ما حدث هو عكس ذلك: انفتحت نافذة جديدة للتواصل مع سلاطين أسرة يوان، الذين استعانوا بالعلماء والمترجمين المسلمين في إدارة شؤون الدولة، بل وأسندت إليهم مهام كبرى كإدارة الأوقاف والمالية. هذه الاستجابة التاريخية تؤكد كيف أن الكوارث قد تنقلب إلى فرص، وأن التحوّلات الكبرى تعيد رسم خريطة التأثير الحضاري.
ثم جاء تحوّل الحكم إلى أسرة مينغ ليكشف مدى تغيّر وضع المسلمين بين تعزيز وتهميش، بحسب السياقات السياسية، ما يدل على التفاعل المتبادل بين البنية الداخلية الصينية والديناميات الحضارية الإسلامية.
ما يُميز هذه العلاقة أنها لم تتأسس على منطق الصراع أو السيطرة، بل على التبادل المعرفي والمشاركة الحضارية. فقد أفاد الصينيون من علوم المسلمين في الفلك والطب وتحلية المياه، واستفاد المسلمون من صناعة الورق والطباعة والأدب الرحلي الصيني، ما جعل التفاعل بين الطرفين حالة حضارية لا تُختزل في تبعية أو تنافس.
إن تحليل هذه العلاقة ضمن إطار الدوائر التاريخية المتداخلة يمنحنا نموذجًا راقيًا لفهم تفاعل الحضارات حين تتجاوز منطق الهيمنة، لتتجلّى في:
• حضور دون هيمنة،
• واختلاف دون قطيعة،
• وتقاطع دون ذوبان.
وهكذا، فإن العلاقة بين الإسلام والصين لم تكن فصلًا عابرًا في التاريخ، بل سردية ممتدة، تُجسِّد كيف يمكن للتاريخ أن يُكتب بالشراكة لا بالاستحواذ، وبالاحترام لا بالإلغاء… من بغداد إلى بكين


