المقالات

المُعتمرون بين نَقْلةٍ نَوْعية وضِيافةٍ رقمية

ةفي العام 1997م، أنعَمَ الله -عزّ وجلّ- عليّ بأول زيارةٍ للحرمين الشريفين (عمرة رمضان) برفقة والدتي -عليها رحمةُ الله-. كنتُ وقتها في سلك الضباط الإداريين بولاية البحر الأحمر، السودان؛ حيث كان تنظيم العمرة بالسعودية يتمُّ عبر الدول، وكانت العمليات تُدار يدويًا، ولم تكن هناك وسائل حديثة آنذاك للتحكم في عودة المعتمرين.
وقد كانت تواجه حكومة خادم الحرمين الشريفين تحديات عديدة، أبرزها: التخلف عن العودة، والتسول، وافتراش الأرض. فقد كان بعض المعتمرين يُخالفون التعليمات ويبقون في الأراضي المقدسة انتظارًا لأداء فريضة الحج، مما يُشكل عبئًا على الحجاج الرسميين. ولذلك، فُرِض مبلغ مالي يُسمّى “أمنية” يُودَع لدى الهيئة العامة للحج والعمرة في السودان، ويتمُّ تسليمه للمعتمر بعد عودته، كحل مؤقت لضمان العودة.
ولطالما كانت رحلة العمرة حلمًا يراود ملايين المسلمين حول العالم، لكنها اقترنت -لسنوات طويلة- بمشاهد مؤلمة لمعتمرين يفترشون الأرض في شوارع مكة والمدينة، يتحملون حر الشمس وبرد الليل. وقد تزامنت هذه الظاهرة مع انتشار التسول الموسمي، مما أثّر على قدسية المكان وسمعته.
قبل التوسعات الهائلة للحرمين الشريفين، كانت الطاقة الاستيعابية محدودة، والبُنية التحتية عاجزة عن استيعاب الأعداد المتزايدة، لا سيّما من ذوي الدخل المحدود. فكان المبيت في الأرصفة وأسقف المباني أمرًا معتادًا، ورافقه خطرٌ صحيّ وأمنيّ.
ورغم محاولات السلطات السعودية آنذاك للمعالجة عبر حملات التوعية والإيواء المؤقت، إلا أن المشكلة بقيت قائمة بسبب عدم التزام المعتمرين بضوابط وزارة الحج والعمرة، وعدم التقيد ببرنامج التأشيرة
مع إطلاق رؤية المملكة 2030 بقيادة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز، وولي عهده الأمين صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان -حفظهما الله-، تغيّر المفهوم جذريًا. لم يَعُد الهدف هو “استيعاب الزحام”، بل “تقديم تجربة ضيافة متكاملة وراقية”، تحفظ كرامة الضيف وتليق بشرف خدمة الحرمين.
جاءت التوسعات التاريخية في المسجد الحرام والمسجد النبوي لرفع الطاقة الاستيعابية وتخفيف الازدحام، كما أُطلقت شبكة قطار الحرمين السريع، لربط مكة والمدينة وجدة، مما قلّل الحاجة للمبيت العشوائي وسرّع من حركة المعتمرين.
وتمّ كذلك تشجيع الاستثمار في إنشاء آلاف الفنادق والشقق بمختلف الفئات السعرية، مما وفّر تنوعًا في خيارات السكن ورفع من جودة الخدمات المقدمة
الطفرة النوعية الأهم كانت بإطلاق تطبيق (نُسُك) من وزارة الحج والعمرة، ليكون رفيق الحاج والمعتمر الرقمي طوال رحلته. ويُعدّ هذا التطبيق تحولًا جذريًا في الخدمات، حيث يُغني عن كثير من التوتر ويُسهم في تحسين التجربة الإيمانية.
ومن أبرز مميزات “نسك”
الإرشاد الذكي للمناسك (صوتي، مرئي، مكتوب) خطوة بخطوة.
والخرائط الذكية للمسجد الحرام والمسجد النبوي، وتحديد أبواب الخروج والمرافق.والتنقل الذكي لتحديد موقع المجموعة أو وسيلة النقل بعد الطواف أو السعي.
وجدولة زمنية شخصية للزيارات والمناسك ومكتبة أدعية وأذكار.وخدمات التغذية والإسكان والنقل، مرتبطة ببرامج العمرة الرسمية.
وقد ساعد هذا التطبيق في تقليل حالات التخلف عن العودة، وسهّل المتابعة الدقيقة لحركة المعتمرين، مما يجعل “نسك” نموذجًا رائدًا في تحويل الخدمات الدينية إلى خدمات ذكية تتماشى مع تطلعات الرؤية السعودية.
ترافقت هذه المبادرات مع استخدام أنظمة تقنية متقدمة لإدارة الحشود داخل الحرمين وخارجهما، وتنظيم حركة المسارات لمنع التزاحم. كما فُرضت قوانين صارمة تجاه المتخلفين والمتسولين، واعتُبر التسول جريمة يُعاقب عليها القانون.
تمَّ كذلك دعم الجمعيات الخيرية الرسمية لتقديم المساعدات المنظمة، وتوجيه مشاعر العطاء إلى القنوات الشرعية. ومن المشاريع الرائدة
مشروع ساحات الحرمين، الذي شمل تكييف الساحات، وتزويدها بإنارة ومراوح ورشاشات ماء.
ومراكز خدمة المعتمرين المنتشرة.آلاف المتطوعين المدربين لخدمة وتوجيه الضيوف.
اليوم، لم يَعُد مشهد الافتراش العشوائي حول الحرمين موجودًا. بل حلّت محله مشاهد حشود منظمة، وفنادق حديثة، ووجوه مطمئنة لضيوف الرحمن، الذين يجدون في مكة والمدينة بيئة راقية تليق بهم.
لم يكن هذا التحول مجرد تطوير للبُنية التحتية، بل تغيّرًا في الرؤية والفلسفة، من “استيعاب الزحام” إلى “تجربة ضيافة فائقة الجودة”.
لقد استثمرت المملكة في كرامة الإنسان قبل الحجارة، وفي سعادة الزائر قبل المظهر. وهنيئًا للمعتمرين بهذه الضيافة الرقمية، والمتابعة الملكية التي تسعى لخدمتهم على أكمل وجه.

• المدير العام للحج والعمرة الأسبق – السودان

المطيع محمد أحمد السيد

المدير الأسبق للحج والعمرة-السودان،

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى