كيف يمكن لمشروع التقويم المدرسي في المملكة أن يشكّل نقطة انطلاق لتمكين المدرسة وبناء نموذج وطني رائد في جودة التعليم؟
يمثل مشروع التقويم المدرسي، الذي تنفذه هيئة تقويم التعليم والتدريب عبر مركز التميز المدرسي، خطوة فارقة في تاريخ التعليم السعودي.
فقد شارف على إتمام دورته الأولى بمستوى رفيع من المهنية والشفافية، وجعل المملكة ضمن الدول القليلة التي تمتلك أنظمة دقيقة لقياس أداء مدارسها، وأدرجته ضمن النماذج الرائدة في دول العشرين، فاتحًا أمام الميدان التعليمي آفاقًا رحبة لثقافة التحسين والتطوير المستمر.
ومن المقرر أن تكون الدورة الثانية أكثر شمولًا، إذ ستغطي مدارس الطفولة المبكرة، وبرامج التربية الخاصة، والتعليم المستمر، وهو توسع يعزّز قيمة المشروع ويؤكد رسالته الوطنية في شمول التعليم بمختلف مراحله وفئاته.
الميزة الجوهرية للتجربة السعودية أنها تبنّت فلسفة واضحة: التقويم مدخل للتحسين والتطوير، لا وسيلة للمحاسبة.
وهي رؤية تتناغم مع تجارب عالمية متقدمة؛ ففنلندا اعتمدت على التقويم الذاتي والتحسين الداخلي، وسنغافورة ربطت الأداء بالحوافز والتنافس الإيجابي، بينما اتجهت المملكة المتحدة إلى نهج المساءلة الصارمة.
ومن هنا تبرز الحاجة إلى مسار «التوازن»، حيث جعلت الهيئة من التقويم مدخلًا للتحسين والتطوير، فيما يتكامل دور وزارة التعليم مع هذا التوجّه عبر سياسات تمكين المدرسة.
وقد جاء هذا الاختيار انطلاقًا من محور أساس هو التركيز على نواتج التعلّم باعتبارها المعيار الأوضح لأثر الجهود التعليمية؛ فهي البوصلة التي تحدد اتجاه العمل التربوي، ولا تكتسب قيمتها إلا إذا قُرئت في ضوء جودة التدريس وفاعلية البيئة المدرسية الداعمة.
وانطلاقًا من ذلك، يكتسب تقرير التقويم المدرسي قيمته الحقيقية حين يتحوّل إلى خطة تحسين حيّة داخل المدرسة، فتغدو دورة الجودة مسارًا متكاملًا يبدأ بالتخطيط ويمضي بالتنفيذ ويترسّخ بالتقويم، ليُثمر أثرًا مستدامًا على تعلّم أبنائنا وبناتنا.
وفي الوقت نفسه، يوفّر التقرير لوزارة التعليم صورة دقيقة عن واقع كل مدرسة في ضوء أربعة معايير رئيسة: الإدارة المدرسية، التعليم والتعلّم، نواتج التعلّم، والبيئة المدرسية بما تشمل من تجهيزات، وبنية رقمية، واشتراطات أمن وسلامة، وجودة مرافق.
وبناءً على هذه الصورة، تستطيع الوزارة ترتيب أولويات الدعم والتطوير، وتوجيه الموارد إلى المدارس الأكثر حاجة، في إطار مسؤولية مشتركة تقوم على التوازن بين تمكين المدرسة ورسم السياسات المركزية.
وقد جاء التحول الوزاري الأخير ليعزز هذا الاتجاه، حيث دخلت المنظومة مرحلة انتقالية تحمل تحديًا نوعيًا يستلزم إعادة صياغة فلسفة الإشراف التربوي، بعد تقليص إدارات التعليم وإلغاء مكاتبها، ليتجسّد في صورة فرق دعم تعليمي.
ويأتي هذا التحول في إطار توجه الوزارة إلى تمكين المدرسة، بوصفها الوحدة الأساس في قيادة التحسين، وإسنادها بمسؤوليات مباشرة في التطوير واتخاذ القرار.
وفي موازاة ذلك، تصل تقارير التقويم المدرسي إلى المدارس مصنّفة في أربعة مستويات: تهيئة، انطلاق، متقدم، متميز. هذه التصنيفات تضع المدرسة في قلب المسؤولية، وتحمّلها دورًا مباشرًا في قيادة مسارها نحو التحسين والتطوير.
غير أن التحدي الأبرز في مسار التقويم المدرسي لا يتمثل في إصدار التقرير ذاته، بل في تحويل نتائجه إلى خطط تحسين وتطوير تحقق أثرًا ملموسًا داخل المدرسة.
فتفاوت الإمكانات بين المدارس، واحتياج بعض القيادات إلى مزيد من التهيئة والدعم، إضافة إلى ما قد يظهر من مقاومة طبيعية تجاه التغيير، كلها عوامل تكشف الحاجة إلى إطار حوكمي واضح، ودعم مالي مستدام، وثقافة مدرسية ناضجة تقوم على القيم والقيادة والشراكة المجتمعية لتعظيم أثر التقويم.
ومن هنا جاءت الحاجة إلى بلورة حزمة من المبادرات العملية التي تشكّل إطارًا وطنيًا متكاملًا، يربط بين القياس والتقويم والتنفيذ والدعم، ويضمن أن تتحول نتائج التقويم من توصيات نظرية إلى تحسينات واقعية داخل المدرسة:
1. توصيات تطويرية مع التقرير:
لا تقتصر تقارير الهيئة على عرض النتائج وتصنيف المدرسة، بل تُرفق معها توصيات مهنية مختصرة يصوغها خبراء الهيئة بعد تحليل البيانات، لتشكّل مدخلًا عمليًا يساعد المدرسة على بناء خطة تحسين متكاملة.
2. المسار الوطني لتمكين فرق التميز: برنامج وطني متخصص لتأهيل لجان الجودة في المدارس، يزوّدها بالجدارات اللازمة لتحليل التقارير وبناء خطط تحسين عملية ومتابعة تنفيذها، لتتحول من لجان إجرائية إلى ذراع قيادي للتطوير الداخلي.
3. تنمية فرق الدعم التعليمي: إعادة تشكيل هوية هذه الفرق لتصبح ذراعًا ميدانيًا متخصصًا في التمكين، عبر إكسابها جدارات مهنية في تحليل النتائج وتصميم برامج علاجية للمدارس منخفضة الأداء، لتتحول من دور المراقب إلى شريك تطويري فاعل.
4. منصة وطنية للتحسين الذاتي: منصة رقمية تفاعلية تزوّد المدارس بلوحات بيانات لمعايير التقويم ومؤشرات الأداء، وتساعدها على صياغة خطط تحسين عملية، مع مكتبة معرفية وقوالب تشغيلية جاهزة.
5. حقيبة التميز المدرسي: مبادرة لجمع أفضل الممارسات من المدارس المتميزة وصياغتها في حقيبة تطبيقية، تُحوّل الخبرات الناجحة إلى نماذج تشغيلية قابلة للتطبيق، وتتيح تبادلها بين المدارس.
6. مسار القائد للتطوير المهني: برنامج نوعي يمنح مديري المدارس تدريبًا متخصصًا في تحليل البيانات، وقيادة التغيير، وبناء ثقافة مدرسية محفزة، مع ربط مباشر بين التدريب ومؤشرات أداء المدرسة.
7. صندوق الأثر المدرسي: آلية تمويل قائمة على “الدعم مقابل الأثر”، تمنح المدارس منخفضة الأداء موارد إضافية مشروطة بتحقيق مؤشرات تحسين واضحة، مع متابعة دقيقة تركز على النتائج لا على تفاصيل الإنفاق.
8. تمكين المدرسة في تشخيص الفجوات التعليمية: برنامج وطني يطور كفايات القيادات والمعلمين في تشخيص نواتج التعلّم، وتحديد الفجوات، وتصميم التدخلات وقياس أثرها، لتكتمل حلقة الجودة داخل المدرسة.
تشكل هذه المبادرات الثماني إطارًا وطنيًا لتحويل نتائج التقويم إلى خطط قابلة للتنفيذ، تضع المدرسة في قلب عملية التحسين وتمكّنها من قيادة مسارها نحو الجودة.
ويتطلب نجاحها تكاملاً في الأدوار بين وزارة التعليم وهيئة التقويم والمعهد الوطني، بحيث تتوزع المسؤوليات بين التنفيذ والتقويم والدعم لضمان أثرها داخل المدرسة.
وهكذا أرست هيئة تقويم التعليم والتدريب قاعدة مهنية وشفافة لثقافة التقويم، غير أن نجاح التجربة لا يكتمل إلا حين تتحول نتائجها إلى حركة تحسين حيّة، تدعمها السياسات الذكية والموارد المستدامة، وتُبنى بشراكة مؤسسية راسخة، لتقوم مدرسة سعودية رائدة مُمكّنة، قادرة على المنافسة عالميًا، وصناعة نموذج وطني متفرّد في جودة التعليم، منسجم مع مستهدفات رؤية 2030.





