المقالاتعام

السعودية… ميزان الذَّرّة وبصيرة المستقبل

حصلت المملكة العربية السعودية على مقعدٍ مستحقٍّ ومفصليٍّ في مجلس محافظي الوكالة الدولية للطاقة الذَّرِّيَّة، لتعلن أنها لم تعد متفرجًا في معادلات الطاقة العالمية، بل صانعًا لموازينها. الوطن الذي حمل رسالة السماء بالأمن والرِّزق، يحمل اليوم رسالة الأرض بالعلم والطاقة والأمان.

لم تصل المملكة إلى هذا الموقع بمجاملة أو صُدفة، بل برؤية استراتيجية تمتد جذورها بعيدًا. السعودية لا تبحث عن بريقٍ لحظيٍّ ولا إنجازات تُجمّل الفترات، بل عن غرسٍ صادقٍ يُثمر لأجيالٍ قادمة. قيادتها تترأّس المحافل الدولية لتصنع الفعل لا الخطاب، وتترك أثرًا لا يُمحى في الاستدامة والسيادة والتنمية.

تعاملت المملكة مع اليورانيوم كأصلٍ استراتيجيٍّ لا كخامٍ للتصدير. أجرت مسوحاتٍ شملت أكثر من تسعين ألف كيلومترٍ مربع كشفت عن احتياطياتٍ ضخمة، وأبرمت شراكاتٍ لنقل تقنيات المعالجة والاستخلاص، لتبني صناعةً نوويةً وطنية تضيف إلى الاقتصاد وتمنحها ميزةً يصعب منازعتها.

في فيينا أعلن وزير الطاقة الأمير عبدالعزيز بن سلمان أن الذَّرّة في يد السعودية ستكون طاقةً للسِّلم لا للحرب، وللتنمية لا للصراع. تحدّث عن أول محطةٍ نوويةٍ تُبنى، عن قدراتٍ بشريةٍ تُنمى، عن منظومات أمنٍ وأمانٍ تُصاغ بمعايير دولية، وعن استعداد المملكة لاستضافة مؤتمرٍ دوليٍّ للطوارئ النووية والإشعاعية. وفي دافوس أكّد الوزير عادل الجبير أن استغلال اليورانيوم حقٌّ سياديٌّ واقتصاديٌّ، يخلق وظائف، ويؤسس لصناعات، ويضيف إلى الناتج المحلي، فلا يُترك ليستفيد منه الآخرون.

الأرقام تُثبت أن هذه الرؤية ليست طموحًا نظريًّا. الطاقة النووية ستوفّر ما يقارب 15% من احتياجات الكهرباء بحلول 2040، محرِّرة ملايين البراميل للتصدير. ستضيف نحو 2% للناتج المحلي خلال عقدين، أي ما يعادل مئة مليار ريالٍ سنويًّا. وستخلق أكثر من عشرة آلاف وظيفةٍ مباشرة وخمسين ألفًا غير مباشرة في البحث العلمي والهندسة والأمن النووي. ومع مشاريع الطاقة المتجددة والهيدروجين الأخضر، ستُخفّض المملكة 278 مليون طن من الانبعاثات الكربونية سنويًّا بحلول 2030، لتقف بين أكبر خمس دولٍ في العالم في مواجهة الاحتباس الحراري.

هذه الخطوات تأتي ضمن شبكة تحالفات تمتد شمالًا مع العراق عبر الربط الكهربائي العربي، وغربًا مع إسبانيا وأوروبا لتبادل الخبرات في الطاقة النظيفة، وشرقًا مع الصين وكوريا لبناء شراكاتٍ في التقنيات النووية. وفي الداخل، تُبنى نيوم لتكون مدينةً نظيفةً بالكامل، تعمل بطاقة متجددة وهيدروجين أخضر، مختبرًا عالميًّا لمستقبل المدن الذكية.

كما رسّخت السعودية مكانتها في أوبك بلس حارسًا لاستقرار سوق النفط، فإنها تدخل اليوم مجلس الذَّرّة لتعيد صياغة ميزانٍ جديد. ميزان يواجه ازدواجية الغرب الذي يرفع شعارات الاستدامة متى شاء ويسقطها متى تعارضت مع مصالحه. ميزان يقوده صدق المملكة في الوفاء، وقوتها في القيادة، ورؤيتها في الغرس الطويل الذي لا تذروه الرياح.

إن انتخاب المملكة لمجلس المحافظين ليس بروتوكولًا، بل تتويجٌ لمسيرة قيادةٍ تضع الدِّين والسياسة والعلم في معادلةٍ واحدة. قيادة ترى أن عمارة الأرض تبدأ بطاقةٍ نظيفة، واقتصادٍ متين، وإنسانٍ مؤهّل. قيادة لا تقود ببريق اللحظة، بل بـ ميزان الذَّرّة وبصيرة المستقبل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى