في ظل الانفجار الرقمي ، وتوسع منصات التواصل الاجتماعي أصبح المحتوى متاحًا للجميع؛ إنتاجًا واستهلاكًا. غير أن هذا الانفتاح لم يأتِ دائمًا بخير، بل أفرز لنا جانبًا مظلمًا يُعرف بـ”المحتوى الهابط”، ذلك النوع من المادة الإعلامية التي تتكئ على الابتذال ،وتفتقر لأدنى معايير القيمة، فتروج للتفاهة والسطحية، وتخاطب الغرائز لا العقول، وتلهث وراء المشاهدات حتى لو على حساب الذوق العام ، أو المبادئ المجتمعية.
المحتوى الهابط لا يُقدّم فكرًا، ولا يُسهم في بناء وعي، ولا يحترم عقل المتلقي، بل يتغذى على الضجيج، ويستمد وجوده من كثافة التفاعل، لا من جودة الطرح.
هو صوتٌ عالٍ في فراغ، يملأ المساحات بضجيج لا معنى له، ويُسهم بمرور الوقت في تسطيح الذوق العام، وخلق رموز زائفة تستمد شهرتها من لا شيء سوى إثارة الجدل أو الاستعراض الفارغ.
وفي مواجهة هذا النوع من المحتوى، تبرز جهود وزارة الإعلام ممثلةً في هيئة تنظيم الإعلام، التي أخذت على عاتقها مسؤولية التصدي لموجة الإسفاف والانحدار.
لم يعد الصمت خيارًا، ولا الحياد مقبولًا، لذلك بدأت الهيئة باتخاذ إجراءات رقابية وتنظيمية تستهدف المحتوى المسيء والمبتذل، وأطلقت تحذيرات للمخالفين، وفرضت غرامات على من يتجاوز ضوابط النشر، في محاولة جادة لحماية الفضاء الرقمي من العبث الإعلامي، وضمان أن تظل منصات التعبير منابر للوعي لا ساحات للعبث.
وقد أكد معالي وزير الإعلام الأستاذ سلمان الدوسري في تصريح له أهمية دور المجتمع في هذه المواجهة، مشيرًا إلى أن “أفضل طريقة للتعامل مع المحتوى الهابط هي التجاهل التام، وعدم منحه أي مساحة للانتشار أو النقاش، فالتافهون لا يصعدون إلا بتفاعل الجمهور معهم”. وأضاف أن “على كافة أطياف المجتمع أن تعي هذا الدور، وتكون جزءًا من منظومة الوعي التي تحارب الرداءة بالصمت، وتخنق التفاهة بالإعراض عنها”.
ومع أهمية الدور التنظيمي، إلا أن الجهد الرسمي لن يثمر دون وعي مجتمعي يُسانده، فالمجتمع هو من يملك القرار الحقيقي في ما ينتشر .
والحقيقة التي يجب أن تُقال بوضوح: التافهون لا يصعدون إلا بأكتاف المتابعين ، ولا يستمرون إلا بتصفيق الجماهير. لذا فإن أكثر الردود قوة على المحتوى الهابط ليس الجدل ولا النقد، بل التجاهل التام، لأن هذا النوع من المحتوى لا يعيش إلا في ظل الضوء، فإن أُطفئت عنه الأنظار مات في مهده.
وهنا تبرز الحاجة إلى ثقافة إعلامية ناضجة، تُفرّق بين الترفيه الراقي والإسفاف، وتُدرك أن كل مشاهدة هي دعم مباشر لصانع المحتوى، سواء كان مفيدًا أو هابطًا.
كما أن من واجب الأسرة والمؤسسات التعليمية والإعلام النزيه أن يسهموا في بناء هذا الوعي، وغرس الذائقة السليمة التي تعلي من شأن المحتوى الراقي، وتحتقر الابتذال، وتُسقط رموزه في صمت دون أن تمنحهم شرف المواجهة.
إن المعركة مع المحتوى الهابط ليست معركة آنية، بل هي صراع مستمر بين ما ينهض بالعقل ، وما يُغرقه في السطحية، بين ما يرقى بالذوق وما يبتذله ، وكل فردٍ في المجتمع هو جزء من هذه المعركة، بصوته، بتفاعله، بما يختار أن يراه، وما يختار أن يُعرض عنه.
لذا، فإن أفضل سلاح لمواجهة هذه الظاهرة هو وعي المجتمع، وامتناعه عن منح التفاهة ما لا تستحقه من اهتمام.
فحين نُدير ظهورنا للضجيج، يذبل، وحين نرتقي بذائقتنا، تنكفئ الرداءة خجلاً من البقاء.
0





