المقالات

لوحةُ كسوةِ الكعبةِ”تأمَّلها المُصمِّم..و تركَها المُجرم!”

قبلَ سنواتٍ، أُهديتُ إلي قطعةً من كسوةِ الكعبةِ المشرفةِ التي تمَّ تغييرُها، فقررتُ تسليمَها إلى مكانٍ متخصصٍ في تزيينِ الهدايا وصناعةِ البراويز، يقع في السوقِ الشعبيِّ بمدينةِالخرطوم. اتَّفقتُ مع المصمِّم على ترتيبِ القطعةِ داخلَ بروازٍ مناسبٍ، و استلمها مني على أن يُنجزَ العملَ خلالَ يومين. و بعدَ انقضاءِ المُدة، عدتُ لاستلامِها، و قد تمَّ تجهيزُها بالفعل. احتفظَ المصمِّمُ برقمِ هاتفي، كما احتفظتُ أنا برقمِه، ثم مضتِ الأيَّام.. وبعدَ أقلِّ من ثلاثةِ أشهر، وردتني مكالمةٌ من المُصمِّم، عرَّفني بنفسِه، و قال لي:”أنا متَّصلٌ عليك الآن من مطارِ الخرطوم، في طريقي إلى الحج!”فقلتُ له: “ما شاءَ الله! حجًّا مبرورًا، و سعيًا مشكورًا، و ذنبًا مغفورًا إن شاء الله.”فقال لي: “أردتُ أن أشكُرك، فأنتَ كنتَ سببًا في حجِّي هذا العام.”فقلتُ متعجبًا:”أنا؟ كيف ذلك؟”
فقال لي: حينَ تركتَ لي قطعةَ الكسوة لأُجهزها، بدأتُ أتأمَّلُها أثناء عملي، و تعلَّق قلبي بالكعبةِ المشرَّفة. دعوتُ اللهَ كثيرًا أن يرزقني حجَّ بيتِه و زيارتَه، و ألححتُ في الدعاء. و قبل أيَّام، اتصل بي أحدُ أقربائي، و بشَّرني بأنَّه سيتكفَّلُ بسفري للحجِّ هذا العام، و ها أنا الآن في طريقي إلى صالةِ السلامة بالمطار.”
لقد فرحتُ له كثيرًا، وازددتُ يقينًا بأنّ لله عبادًا إذا تمنَّوا، أعطاهم، و إذا دعَوا، استجابَ لهم. و قمتُ حينها بتعليقِ لوحةِ الكسوةِ على حائطِ صالونِ منزلي، و ظلَّتْ فيه لسنوات، حتى جاءت الحرب.. و جاءَ معها الخرابُ و الدمار، ما استوقفني حينها، هو أنَّ المجرمين الذين اعتدَوا على منزلي، نهبوا كلَّ شيء، بل حتى أسلاكَ الكهرباء ـ كما يظهر في الصورة ـ، إلا أنهم تركوا لوحةَ كسوةِ الكعبةِ مكانَها، لم يُحرِّكوها ولم يمسوها، ربما لأنهم لم يرَوا فيها شيئًا ذا قيمةٍ مادية، لكنني قلتُ في نفسي:
“تأمَّلَها المُصمِّم..و تركَها المُجرم.”
هذه الكسوة التي لم تُمسّ رغم الفوضى، تحمل سرًّا أبعد من كونها مجرد قطعة قماش مقدّسة؛ فهي تحفة فنية ودينية صنعت بجهد عريق بدأ من مكة المكرمة، حيث أنشأت المملكة منذ عام ١٣٩٧ه‍ (١٩٧٧م) مصنعًا متخصصًا لصناعة كسوة الكعبة في أم الجود –مجمع الملك عبد العزيز لكسوة الكعبة المشرفة.
في ذلك المصنع يُحاك الحرير الطبيعي المستورد من إيطاليا، ويصبغ باللون الأسود وفقًا لمواصفات دقيقة، ثم يُطرّز بخيوط الفضة والخيوط المطلية بالذهب المستوردة من ألمانيا. وقد تطلّب تصنيع الكسوة نحو ٦٧٠ كجم من الحرير الخام، إضافة إلى كميات كبيرة من الخيوط الفضيّة والمذهّبة، في عملية تكلّفت للمملكة سنويًا ما بين ٢٠ و٢٥ مليون ريال، و هو إنفاق يعكس قيمة الكعبة و تعظيمها في نظر القيادة السعودية.
و قد شهد المصنع تحديثات جوهرية بأمر سامي من خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان، الذي أولى صناعة الكسوة عناية استثنائية، فجعلها في صدارة اهتماماته، وأمر بتجديد الماكينات و تطويرها لتواكب أحدث التقنيات العالمية، إدراكًا منه لمكانة بيت الله الحرام و عظمة شرف كسوته. و قد جسّد الملك سلمان في ذلك رعايته الدؤوبة لشعائر الإسلام، وحرصه على أن يظل ثوب الكعبة رمزًا للجمال و الإتقان، شاهداً على ما توليه المملكة من فخرٍ و اعتزاز بخدمة الحرمين الشريفين.
تمر الكسوة في مراحل متعددة من صباغة الغزل و فحص المختبر لمقاومة اللون و المتانة، وصولًا إلى الطباعة الفنية، و التطريز اليدوي الدقيق، ثم التجميع النهائي للثوب. و بعد الانتهاء تُسلم الكسوة في احتفال رسمي إلى كبير سدنة بيت الله الحرام، و تُركّب على الكعبة في يوم عرفة، وتُستبدل بالكسوة السابقة التي تُقص بعناية وتُقسم إلى قطع تُوزّع كهدايا تراثية على شخصيات و جهات دينية وإسلامية.
و هكذا، تصبح كلْ كسوة للكعبة شهادة حيَّة على امتزاج العبادة بالتقنية، و التاريخ الحيّ بالحرفية، و رسالة خالدَة في التكريم الروحي و. تجديد المشاعر لكل مسلم يؤدّي فريضة الحج.

 

المطيع محمد أحمد السيد

المدير الأسبق للحج والعمرة-السودان،

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
    كلمات جميله حواها هذا المنشور
    جزاك الله خير الجزاء وبارك الله فيك أخي الكريم الشيخ المطيع محمد احمد وتقبل منكم ماقدمتموه من خدمات جليلة لحجاج بيت الله الحرام من أهلنا الطيبين اهل السودان أسأل الله أن يبارك فيك ويحفظك ويسعدك ويهنيك ويكرمك ويديك حتى يرضيك يبلغك مرادك ومناك ويعيد علينا تلك الأيام

اترك رداً على ياسر ميرغني عبدالفراج إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى