المقالات

ريادة الإمام الشيباني في تأسيس “الفقه الدولي”: من “السِّيَر” إلى القانون الإنساني المعاصر

كيف سبق فقيهٌ من القرن الثاني الهجري هوجو غروسيوس بتسعة قرون؟

في زمنٍ تُعاد فيه صياغة قواعد الحرب والسلم وحقوق الإنسان على موائد الأمم ومنابر المحاكم الدولية، يطلّ علينا اسمٌ يكاد يغيب عن السردية العالمية لتاريخ القانون: الإمام محمد بن الحسن الشيباني (132–189هـ/750–805م). هذا الفقيه الحنفي البغدادي، الذي درس على أبي حنيفة وأبي يوسف وسمع من مالك والثوري والأوزاعي، دوّن في كتابين لافتين – السِّيَر الكبير والسِّيَر الصغير – أقدمَ بناءٍ فقهيٍّ شاملٍ للعلاقات بين الأمم: أحكام الحرب والسلم، حصانة السفراء، الأمان والهدنة، حقوق الأسرى والمدنيين، والعقود الدولية. إنها مفردات نعدّها اليوم “قانونًا دوليًّا”، غير أنّ الشيباني صاغها قبل هوجو غروسيوس ورفاقه بقرون طويلة.

هذه المقالة الصحفية تُلخّص – بلغةٍ قريبة من القارئ غير المتخصص – قصة الشيباني وكتابيْه، ولماذا ينبغي أن يعود اسمه إلى واجهة النقاش العالمي حين نتحدث عن جذور القانون الدولي الإنساني، وعن مساهمة الحضارة الإسلامية في صياغة الضمير القانوني للبشرية.

من واسط إلى بغداد: تكوين عقلٍ تشريعيٍّ للدولة

ولد الشيباني في واسط، ونشأ في الكوفة، ولازم أبا حنيفة ثم أبا يوسف، وتشرّب مدرسة العراق العقلية، ثم رحل إلى المدينة فقرأ على مالك “الموطأ” واكتسب حسّ المدرسة الحديثية. هذا المزج بين الأثر والنظر شكّل شخصيته العلمية: فقيهٌ أصوليّ، محدّثٌ راوية، ونظّارٌ في المقاصد، يقرأ النصوص في سياق دولةٍ فتيةٍ تمتدّ وتتفاوض وتُهادِن وتحارب وتُسالم.

تولّى القضاء في الري وبغداد، فاختبرت أفكاره الواقعَ الإداري والسياسي، وخرجت كتبه من مكتب القاضي لا من برجٍ عاجي؛ لذلك جاءت ذات طابعٍ تطبيقيٍّ حيّ، لا تنظيرًا مجرّدًا.

ما معنى “السِّيَر”؟

في اصطلاح الفقهاء، وبخاصّة الحنفية، تدلّ “السِّيَر” على أحكام التعامل مع غير المسلمين خارج دار الإسلام وداخلها: بدءًا من تعريف دار الحرب ودار الإسلام، مرورًا بالحرب والسلم، وصولًا إلى حصانة وفود الأعداء، وحماية المستأمنين، وتنظيم الهدنة والصلح، وتداول الأسرى والغنائم، وحفظ حقوق الذميّين. بهذا فتح الشيباني بابًا فقهيًّا مستقلًّا سبق ظهور مصطلح “القانون الدولي” الأوروبي بعدّة قرون.

الكتابان: مختصرٌ تأسيسيٌّ وموسوعةٌ تطبيقية

• السِّيَر الصغير: أسبق تأليفًا، أقرب إلى مختصرٍ تأصيلي، يعرض الأصول والقواعد الكبرى دون تفريعاتٍ مطوّلة، ويُكثر من النقل عن أبي حنيفة وأبي يوسف.
• السِّيَر الكبير: موسوعةٌ فقهية في خمسة مجلّدات (بحسب أشهر الطبعات)، توسّع في التفصيل والتقعيد، وأضحى المرجع الأوسع في بابه. وقد شرحه السرخسي في عملٍ ضخم صار دستور المدرسة الحنفية في العلاقات الدولية.

ما الذي يجعل هذه المدونة فريدة؟ أنها لا تكتفي بوضع “قواعد حرب”، بل تُقيم منظومةً أخلاقيةً وقانونيةً متكاملة: تمييز بين محاربٍ ومدني، حفظ العهود، إكرام الرسل، تحريم المُثلة، احترام الأمان… مبادئ تحمل توقيع الشريعة، وتلتقي – بذكاءٍ مدهش – مع ما يسميه العالم اليوم “القانون الدولي الإنساني”.

سبقٌ زمنيّ وفكريّ… ولماذا يهمّنا الآن؟

يُنسب تأسيس القانون الدولي في السردية الغربية إلى غروسيوس (القرن 17م). غير أن الشيباني – وفق شهادات كثيرٍ من المؤرخين والمستشرقين – سبق في التأصيل والتدوين؛ لا على مستوى “الأفكار العامة” فحسب، بل على مستوى تقعيد الأحكام وتحريرها في فصولٍ وأبواب: الجهاد، الأمان، الصلح، المهادنة، أهل الذمة، المستأمنون، إرسال الرسل، الأسرى، الفيء، الغنائم… إلخ.

لماذا يهمّ هذا اليوم؟ لأن النقاش العالمي حول أخلاقيات الحرب وحماية المدنيين وحُرمة المرافق وحصانة الدبلوماسيين وقواعد اللجوء لا يزال محتدمًا. والعودة إلى تراثٍ قدّم منظومةً أخلاقيةً ملزمة قبل قرون تمنح العالم زاويةَ نظرٍ إضافية: أن القانون يمكن أن يكون إنسانيًّا ودينيًّا في آنٍ معًا، وأنّ الشرعة الأخلاقية ليست عائقًا أمام العقل القانوني، بل رافعةٌ له.

ماذا في المضمون؟ قواعدٌ تسبق عصرها
1. الحرب والسلم
• اشتراطُ إذنِ الإمام وإقامةُ الحجة قبل القتال.
• التمييزُ الصارم بين المحاربين والمدنيين.
• حظرُ المُثلة، وإقرارُ كرامة الإنسان حتى في ساحة المعركة.
• تنظيمُ الهدنة والصلح المؤقت والدائم وشرائطهما.
2. الحماية والعهود
• الأمان الفردي والجماعي، ووجوب الوفاء به.
• حصانةُ الرسل والوفود والمبعوثين السياسيين.
• احترامُ الرسائل الرسمية وعدمُ انتهاكها.
3. الأسرى والغنائم
• تعدُّدُ الخيارات بين المنّ والفداء والاسترقاق والقتل بضوابطٍ صارمة، مع ترجيح ما يوافق المصلحة والرحمة.
• ضبطُ قسمة الغنائم والفيء على نحوٍ يمنع الفوضى ويكفل الحقوق.
4. أهل الذمة وحقوق غير المسلمين
• عقدُ الذمة باعتباره منظومة حقوقٍ والتزامات، لا علاقة قهر.
• حمايةُ الدم والمال والعِرض، والتزام الدولة بحفظهم ما داموا على العهد.
5. الدبلوماسية والتمثيل الدولي
• تبادلُ السفراء، وضمانُ سلامتهم، والاعترافُ بحُرمة رسالتهم.
• إمكانُ نقل الاتفاقات والعهود بين الكيانات السياسية وفق ضوابط.

هذه البنود ليست “آراءً مبعثرة”؛ إنها تقنينٌ فقهي منضبط، يُحيل إلى القرآن والسنة والسيرة الراشدة، ويستخلص من وقائع مثل صلح الحديبية، وحلف الفضول، ومعاملة النبي ﷺ للأسرى، ورسائله إلى الملوك، قواعدَ عامة قابلةً للتطبيق عبر العصور.

شهاداتٌ من داخل التراث وخارجه

يكفي أن نستحضر كلمة الإمام الشافعي:
“الناس عيالٌ في الفقه على أبي حنيفة، وعيالٌ في السِّيَر على محمد بن الحسن.”
وهي عبارة تختصر مكانة الشيباني عند فقهاء عصره ومَن بعدهم.

ومن خارج البيت الإسلامي، اعتبر باحثون غربيون بارزون أنّ ما كتبه الشيباني أول محاولةٍ ممنهجة لتأطير العلاقات الدولية على أساسٍ قانونيٍّ وأخلاقيٍّ في آنٍ واحد، وأنّ أوروبا لم تعرف قبل غروسيوس مدونةً تضاهي “السِّيَر الكبير” في التفصيل والتنظيم.

المخطوط والطبعات… ورحلةُ نصٍّ عاش طويلًا

تاريخ الكتابين حيٌّ في خزائن العالم:
من السليمانية والأزهر ودار الكتب المصرية والظاهرية بدمشق، إلى برلين وباريس وأكسفورد وكمبردج. وقد نهض السرخسي بشرح “السِّيَر الكبير”، فأنتج واحدًا من أوسع شروح الفقه الإسلامي، ظلّ المرجع الأكبر لطلاب القضاء والسياسة الشرعية قرونًا.

وفي العصر الحديث، عكفت الجامعات ومعاهد القانون المقارن على تدريس مقتطفاتٍ واسعة من الكتابين، وترجمت أجزاءً إلى الإنجليزية والفرنسية والألمانية والتركية والأردية، مع الدعوات المتكررة لإنجاز ترجمةٍ علميةٍ كاملة مع تحقيقٍ نقدي.

لماذا غاب الاسم عن السردية العالمية؟

ليس سرًّا أن كتابة تاريخ القانون الدولي تمت – طويلًا – بمنظورٍ أوروبيٍّ يبتدئ من قانون الرومان ثم يقفز إلى مدونات العصر الحديث. وفي هذا السرد، تُختزل الحضارات الأخرى في هامش “التأثيرات”. غير أنّ إعادة قراءة “السِّيَر” تكشف أنّنا أمام مركز لا هامش: بناءٌ معرفيٌّ مكتملٌ ذو مفاهيم وأبواب ومقاصد، سبق نظيراتٍ أوروبية، بل أثّر في مدوناتٍ عثمانية وهندية لاحقة دخلت، على نحوٍ مباشرٍ أو غير مباشر، في الحوار العالمي حول القانون.

إنّ استعادة الشيباني ليست “مباهاةً تاريخية”، بل تصحيح مسار: الاعتراف بأن القانون الدولي الحديث نتاجُ حوارٍ حضاريٍّ طويل، أسهم فيه مسلمون ومسيحيون ويهود وآسيويون وأفارقة… وأنّ العدالة الدولية تتسع لجذورٍ أخلاقيةٍ متنوّعة.

ماذا تقدّم “السِّيَر” لعصرنا؟
1. أخلاقيات ملزمة لا ذرائعية
يأتي الشيباني من عالمٍ يرى أنّ الحرب آخرُ الخيارات، وأنّ الرحمة قيمةٌ مُلزِمة، وليست “ترفًا أخلاقيًّا”. هذا يضع معاييرَ مشددةً على سلوك الجيوش، ويُلزم السلطةَ بالوفاء حتى لو خالف الهوى السياسي.
2. دسترةُ العلاقة مع “الآخر”
“السِّيَر” لا تتعامل مع غير المسلمين ككتلةٍ مبهمة، بل كأطرافٍ ذوي حقوقٍ وعهودٍ وحصانات، ما يعني الاعترافَ بالآخر السياسي والديني اعترافًا قانونيًّا.
3. قابليةُ التفعيل
لأن الكتابين خرجا من تجربةِ دولةٍ تُفاوض وتقاتل وتُهادن، فهما قابلان للترجمة إلى إجراءاتٍ وسياساتٍ اليوم: من بروتوكولات تبادل الأسرى إلى قواعد حماية البعثات الدبلوماسية.
4. لغةُ مقاصد
لا يقف الشيباني عند ظاهر النصوص، بل يستنطق المقاصد: حفظ النفس والمال والعرض والعهد. وهذه اللغة تلائم أفق القانون الدولي الإنساني الحديث الذي يجعل الإنسان مركزَ المعادلة.

بين المختبر الأكاديمي وغرفة القرار

لا غرابة أن تجد “السِّيَر الكبير” حاضرًا في قاعات الأزهر والزيتونة وبغداد وأم القرى والقرويين، كما في أكسفورد وكمبردج وليدن وبرنستون. لقد أصبح نصًّا يُقرأ في القانون المقارن وتاريخ التشريع ودراسات الشرق الأوسط، وتُناقش على أساسه رسائل ماجستير ودكتوراه عن حقوق غير المحاربين، ومقارنة الشيباني بغروسيوس، والمقاصد في إدارة النزاع، وتأثير المدرسة الحنفية في التشريع العثماني.

لكنّ التحدّي اليوم هو نقل هذا الثراء من المختبر الأكاديمي إلى غرفة القرار: إلى سياسات وزارات الخارجية والدفاع والعدل، وإلى أدلة السلوك في الميدان، وإلى لغة المحاكم والنيابات الدولية في قضايا الحرب واللجوء وحصانة الدبلوماسيين. هنا، تصبح إعادة تحقيق النصوص وترجمتها ترجمةً علميةً كاملة، وتقديم شروحٍ حديثةٍ مُحكمة، استثمارًا في سلام البشرية لا في ماضٍ مُؤرشف.

اعتراضاتٌ وملاحظات… وإجابات

• أليس تقسيم دار الإسلام ودار الحرب عتيقًا؟
يقرأ الشيباني هذا التقسيم كأداةٍ توصيفيةٍ قانونيةٍ لضبط الاختصاصات والعلاقات، لا كدعوةٍ للخصومة الدائمة. ومع تطوّر الدول والعلاقات، يمكن إعادة صياغة المفهوم بلغة السيادة والمعاهدات دون الإخلال بالمقاصد.

• خيارات الأسرى، وفيها القتل والاسترقاق… كيف نوفّقها مع المعايير الحديثة؟
جرى تاريخيًّا توسيع دوائر المنّ والفداء، ومع صعود القانون الدولي المعاصر تحقّق إجماعٌ عمليٌّ على حظر الاسترقاق والقتل خارج القضاء. إن قراءة “السِّيَر” بالمقاصد تُرجّح ما يحفظ الحياة والكرامة، وهو ما ينسجم مع التزامات الدول اليوم.

• هل يمكن لنصٍّ ديني أن يكون عالميًّا؟
يقدّم الشيباني نموذجًا يزاوج بين المعيار الأخلاقي والفعالية القانونية. ليس المطلوب تعميم المرجعية الدينية، بل الاعتراف بأن جذورًا دينيةً قدّمت مساهماتٍ كونية الأثر، وأنها قادرة على الحوار مع المنظومات الوضعية الحديثة.

امتداد اسم الشيباني في العصر الحديث

ومن مظاهر العناية الحديثة بتراث الإمام الشيباني قيام جمعية الشيباني للقانون الدولي التي أُسِّست في نيقوسيا سنة 1984م، وتولّت في بداياتها نشر حولية فلسطين للقانون الدولي قبل انتقال إصدارها لاحقًا إلى دور نشر أكاديمية متخصصة. ويُعد ظهور هذه الجمعية دليلاً على استمرار حضور المدرسة الشرعية التي أسّسها الشيباني في فضاء القانون الدولي الحديث، ولو من خارج العالم العربي، كما يعكس اهتمام الباحثين والقانونيين باستلهام هذا التراث في سياقاتٍ معاصرة.

خاتمة: استئناف الحوار مع تراثٍ يصنع المستقبل

ليس الإمام محمد بن الحسن الشيباني سيرةَ فقيهٍ في كتاب تاريخ، بل صوتٌ حاضر في نقاشات العالم حول الحرب والسلم واللجوء والدبلوماسية. إنّ إعادة الاعتبار لـ“السِّيَر الكبير” و“السِّيَر الصغير” ليست ترفًا معرفيًّا، بل تصحيحٌ لبوصلة الذاكرة القانونية العالمية، ودعوةٌ إلى أن نرى القانون الدولي شبكةً من الروافد تشترك فيها حضاراتٌ متعدّدة.

نحتاج اليوم إلى ثلاث خطواتٍ عملية:
1. تحقيقٌ علميٌّ جديد للكتابين مع فهارس نقدية وهوامش مقارنةٍ حديثة.
2. ترجمةٌ كاملةٌ معتمدة إلى الإنجليزية والفرنسية والإسبانية والماليزية وغيرها، تُراجعها لجانٌ متعددة التخصص.
3. دروسُ تطبيقٍ تُحوّل مبادئ “السِّيَر” إلى أدلةٍ إجرائيةٍ في وزارات الخارجية والدفاع والعدل، وفي كليات القانون والعلوم السياسية.

بهذا، لا نستعيد مجدًا غابرًا، بل نُسهم – من موقعنا الحضاري – في ترميم الضمير القانوني للبشرية، ونضع لبنةً من تراثنا في بناء عالمٍ أعدل: عالمٍ يحفظ العهود، ويكرم الرسل، ويحمي المدنيين، ويُنزّل “الرحمة” منزلة القانون. وهذا – في جوهره – هو درس الشيباني الذي يسبق زمانه، ويتجاوز مكانه.

أ.د. فايد محمد سعيد

عضو المجلس الأوروبي للقيادات المسلمة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى